قائمة الموقع

استشهد أخوه وأصيبت طفلته.. النازح "الشوا" يكابد آلامًا غائرة

2024-07-01T10:10:00+03:00

"يابا أخوك استشهد.. مسامحه من كل قلبي"، هي محادثة خلعت قلب الثلاثيني محمود الشوا الذي لا تبعده عن أهله سوى بضع كيلو مترات لكن يحول بينهم الفصل القسري بين جنوب القطاع وشماله.

نكأ ذلك النبأ القاهر جراحًا نازفة في "روح" الشاب الذي لم يشف بعد من ألم النزوح الإجباري المتكرر والفراق والإصابة التي حلت به وبطفلته منة الله.

تحشرج صوته واحمرت وجنتاه، وتصلبت قدماه عندما غلبه شعور القهر، وسكتت كلماته أمام هول المصيبة.

رأسًا على عقب انقلبت حياة محمود الذي كان فرحًا قبل أيام من شن الاحتلال حرب الإبادة الجماعية على قطاع غزة في أكتوبر/تشرين الأول، بوصول شقته التي بناها حجرًا حجرًا مرحلة التبليط.

كان ذلك "حلمًا" له وقد أقام 14 عامًا في شقة أهله الواقعة في حي الزيتون جنوب مدينة غزة، منتظرًا اللحظة التي يستقل فيها مع زوجته وأطفاله: محمد وأحمد ومنة الله وماسة.

"جمعت قرشين (مالًا محدودًا) ولم يكف ذلك لبناء شقة، ساعدني أخي لاستكمال صب السقف ولم تسعني السعادة"، يقول محمود لـ"فلسطين أون لاين"، محلقًا في فضاء ذاكرته.

باتت شقته ضمن بناية أهله في الشهر الثاني من حرب الإبادة مأوى لعشرات المواطنين الذين أجبرهم القصف المكثف على النزوح من مناطق مختلفة لا سيما تل الهوا التي هدد فيها جيش الاحتلال مستشفى القدس.

اعترى القلق محمود على حياة النازحين الذين بلغ تعدادهم 120 في منزل عائلته آنذاك.

في نوفمبر/ تشرين الثاني شن الاحتلال بالقرب من منزله ما تعرف بـ"الأحزمة النارية" وهي سلسلة هجمات جوية متتالية قد تستمر لساعات على منطقة واحدة.

فوجئ الشاب بالشهداء والمصابين الذين هرع بهم الناس في الشوارع ومنهم من نقلوا بواسطة عربات تجرها الحيوانات.

ومنذ بداية حرب الإبادة استهدف الاحتلال الطواقم الطبية بما في ذلك المسعفين، ومنع إدخال الوقود اللازم لتشغيل سيارات الإسعاف.

يتصبب محمود عرقًا، مضيفًا، "تكثف القصف مع حلول الساعة السادسة صباحًا، ونزحت مجبرًا مع زوجتي وأطفالي واثنتين من أخواتي، إحداهما أرملة شهيد، قاصدًا أحد مراكز الإيواء في حي الشجاعية شرق المدينة".

وقبل وصولهم إلى الشارع الرئيس قطعت ثلاث قذائف طريقهم، حتى تناثرت أشلاء مواطنين على الأرض.

حاول محمود لفت انتباه أطفاله عن هذا المشهد المهول، وشق طريقه نحو وجهة النزوح الأولى.

لكنه وجد نفسه تحت كثافة النيران مغلوبًا على أمره، وسلك طريق المحافظة الوسطى في 15 نوفمبر.

وزعم الاحتلال أن جنوب القطاع "منطقة آمنة" لكنه سرعان ما عاث فيها خرابًا وتدميرًا، وبلغ عدد النازحين في قطاع غزة نحو مليونين، وفق معطيات رسمية.

وصل محمود إلى مخيم النصيرات بلا حول منه ولا قوة ولا مال.

فصل الاحتلال بين شمال القطاع وجنوبه وشتت شمل المواطنين، وبات محمود القريب بالمسافة من أهله بعيدًا عنهم، وهم أبوه وثلاثة إخوة وخمس أخوات.

"لم أملك وقتها حتى شيقلًا واحدًا.. وأطفالي غلبهم الجوع، ما اضطرت أختي إلى طلب المساعدة من أحد الناس"، يسرد محمود تفاصيل مأساته.

استخدم محمود 150 شيقلًا حصل عليها كأجرة لنقلهم إلى محافظة خانيونس بغية الوصول لمركز إيواء هناك، وزاد الطين بلة تضرر شقته بفعل غارة جوية استهدفت منزلًا مجاورًا.

رافقه في خانيونس ضنك العيش، في ظل حصار خانق يفرضه الاحتلال، حرمهم ذلك حتى من الطعام وعاشوا على ما توفر لهم من المياه لثلاثة أيام، قبل يطلبوا العون من الجيران.

وأصيب محمود بشظايا قذيفة أدت إلى كسر في أنفه.

وبعد 45 يومًا أجبرهم الاحتلال على النزوح من خانيونس، وهو ما نزل كصاعقة عليه، فمع شح المال، تشارك مع عائلات عدة لتوفير أجرة نقل إلى غرب مدينة رفح، وهناك لم يجد مأوى، ومكث في العراء مع أسرته أربعة أيام.

أجبره ذلك على الانتقال إلى دير البلح في محيط مستشفى شهداء الأقصى، وهناك لم يسلموا أيضًا من استهدافات الاحتلال.

"أطلق الاحتلال نيرانه لاسيما عبر طائرات الكواد كابتر واستشهد مواطنان على مقربة منا"، يتابع حديثه مقلبًا كفًا على كف.

وأخيرًا، استقر في منطقة غرب دير البلح، التي يزعم الاحتلال أيضا أنها "آمنة".

إصابة منة الله

لكن في نهاية أبريل/نيسان، وبينما كانت منة الله تشاهد أناشيد الأطفال عبر الهاتف المحمول في خيمة النزوح، أطلقت صرخات استغاثة.

هرع إليها أبواها، وجدا وجهها مغطى بالدماء الذي ينزف كنافورة.

نقلها أبوها سريعًا إلى مستشفى شهداء الأقصى، وهناك أبلغه الطبيب بأن طلقًا ناريًا أصاب خدها، أطلقته طائرة كواد كابتر تابعة للاحتلال.

ببراءة، تقول الطفلة: "كنت بحضر على الشاشة وفجأة صار دم توجعت وصرخت".

ويحتفظ محمود بالطلق الناري شاهدًا على جريمة الاحتلال.

لكنها ليست سوى جريمة واحدة من سجل أسود مليء بجرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية، وفق تأكيدات منظمات أممية.

في 30 يونيو/حزيران، وقع الحدث الأكثر إيلامًا لمحمود باستشهاد أخيه عبد الله (27 عامًا)، في حي الصبرة بغزة، وقد دفن دون أن يتمكن من وداعه.

كان عبد الله في طريقه لنقل بعض الحاجيات الخاصة بصديق للعائلة، مستقلًا سيارة نصف نقل، وبرفقته طفله فادي وابن عمه واثنان من أصدقائه، ولاحظوا تحليق طائرة حربية بدون طيار على علو منخفص من السيارة، سرعان ما استهدفتها.

استشهد عبد الله وطفله وآخرون من جراء الغارة.

وتجاوزت حصيلة الشهداء والمفقودين والمصابين الغزيين 130 ألفًا منذ السابع من أكتوبر، معظهم نساء وأطفال، وفق وزارة الصحة.

وكأنما استرد والد محمود ذاكرته من حجم المصيبة، وصب عليه مشاعر الحنين والاشتياق في مكالمة رثى فيها ابنه عبد الله.

لكن كلاهما لا يزالان يقيدهما الوجع، على أمل لقاء يشفي شيئًا من جراحهم ويسكت أوجاعهم، دون أن يعلما متى سيتحقق ذلك.

اخبار ذات صلة