قائمة الموقع

حكاية عائلة فرَّقت شملها "أُكذوبة" النزوح الآمن للأبد

2024-06-24T17:47:00+03:00
عبد الله الأفغاني مع زوجته نور الحلو وثلاثة من أبنائهم

منذ ارتباطهما قبل عشرة أعوام اعتاد عبدالله الأفغاني وزوجته نور الحلو المودة في علاقتهما الزوجية. كانا يتبادلان باستمرار كلامًا حملت حروفه الكثير من معاني الحب والغرام.

لكن عبدالله الآن لم تعد لديه نور؛ تلك التي كان يبث إليها آلامه وأوجاعه بعدما غيَّبتها قسرًا حرب الإبادة الإسرائيلية ومعها أحد أبنائها.

يعيش عبدالله البالغ (37 عامًا) حالة من العزلة لم يعهدها من قبل، داهمته عندما فرضت الحرب على زوجته الابتعاد عنه لأول مرة في حياتهما.

وكان جيش الاحتلال بدأ حربه على قطاع غزة يوم 7 أكتوبر/ تشرين الأول 2023، ورافقها ارتكاب جرائم وفظائع بحق الإنسانية.

ومع كل حزام ناري وغارة لمقاتلات جيش الاحتلال، كانت دقات قلب عبد الله تدوِ كطبول الإعدام من شدتها خوفًا من أي مكروه يصيب زوجته البالغة (30 عامًا) وأبنائه الأربعة يامن (10 أعوام)، ريتال (8 أعوام)، يوسف (5 أعوام)، ومحمد (5 أشهر).

في حينه، كانت تصريحات وزير جيش الاحتلال يوآف غالات، والناطق باسم جيشه دانييل هغاري لا تتوقف وتحمل علنًا الكثير من التهديد والوعيد لغزة وأهلها.

وقد أجبرت عمليات التدمير الموسع بأطنان المتفجرات التي ألقتها المقاتلات الحربية على الأحياء السكنية، مئات آلاف المواطنين على النزوح من شمالي القطاع إلى محافطات الوسطى والجنوب.

وكانت نور وأبنائها اضطروا لمغادرة منزلهم في حي الشجاعية شرقي مدينة غزة بعد عشرة أيام من بدء حرب الإبادة، على أمل أن يلحق بها زوجها بعد يوم أو اثنين، إلا أن قسوة الحرب حالت دون ذلك، وبقي هو في بيته.

واستقرت نور مع أبنائها ووالدتها وآخرين من أفراد عائلتها في نهاية أول رحلة نزوح لهم في مدينة رفح، جنوبًا، حيث أصبحت أصغر مدن القطاع الساحلي مساحة قبلة النازحين الفارين من هول المذابح الإسرائيلية.

يقول عبدالله لموقع "فلسطين أون لاين": إنه لم يتوقع يومًا ما أن تفرق الجغرافيا بينه وبين زوجته وأبنائه، لكن جيش الاحتلال استطاع فعل ذلك عندما قسم قطاع غزة إلى نصفين.

وبواسطة حواجز عسكرية أقامها جيش الاحتلال على شارعي الرشيد، غربًا، وصلاح الدين، شرقًا، أصبح جيش الاحتلال قادرًا على التحكم بكل شيء ممكن أن يمر عبر الشارعين، ويسمح في بعض الأحيان بانتقال المواطنين من شمالي القطاع إلى جنوبه، في حين يمنع مطلقًا عودة النازحين إلى منازلهم في الشمال.

وعند نفس الحاجزين يمارس جيش الاحتلال انتهاكات جسيمة تشمل القتل والاعتقال والإخفاء القسري، وقد حال ذلك دون وصول عبدالله إلى رفح حيث نزحت زوجته وأبنائه.

بمرور أيام الحرب الممتدة للشهر الـ9 على التوالي، انتاب الكثير من القلق الزوجين خشية من أي مكروه يصيب الآخر، إذ إن الاحتلال لم تعد منطقة في قطاع غزة البالغ تعداد سكانه أزيَّد من مليوني و200 ألف نسمة إلا وتعرضت للقصف والتدمير العنيف.

"كنت دائم التواصل مع زوجتي وبشكل يومي.. اعتادت أن تطلب مني الدعاء لها ولأبنائنا" قال عبدالله بعينين تألقت فيهما الحسرة بوضوح.

مع اشتداد الحرب وتصاعد وتيرة تهديدات قادة الاحتلال باجتياح مدينة رفح التي كانت ملجأ لأكثر من مليون و200 ألف مواطن غزِّي، قررت نور بموافقة زوجها الانتقال وأبنائها إلى منطقة الزوايدة المطلة على شاطئ بحر غزة في المحافظة الوسطى للقطاع.

هناك لم تجد العائلة النازحة مكانًا لها بسبب الازدحام وكثرة عدد النازحين، فنزحت مجددًا مع والدتها وأبنائها إلى منطقة وادي السلقا شرق مدينة دير البلح، حيث تملك عائلة زوجها أرضًا قررت المكوث فيها إلى حين ميسرة.

لم يمضِ على وصولها هناك سوى يوم واحد -والقول لزوجها- عندما بدأ جيش الاحتلال عملية عسكرية موسعة في المناطق الشرقية للمحافظة الوسطى وتحديدًا الأربعاء الموافق 5 يونيو/ حزيران 2024.

"عندها أصبحت زوجتي وأبنائي في دائرة الخطر المباشر، حيث كانت تبحث عن وسيلة لعلاج ابننا محمد من ارتفاع حاد في درجة الحرارة أصاب جسده فجأة" والقول لعبدالله.

كان لا بد عليها أن تجد عيادة أو طبيبًا يقوم بهذه المهمة، فقررت مغادرة المكان الذي نزحت إليه في وادي السلقا محاولة الوصول إلى مستشفى شهداء الأقصى في دير البلح.

وبينما كانت تحمل محمد وتمسك بيد يوسف وهو يركض إلى جوارها، فوجئت بدبابة لجيش الاحتلال على بعد مئات الأمتار منهم.

وما هي سوى لحظات حتى أطلقت الآلية العسكرية قذيفة اخترقت ظهرها وفتكت بها قبل أن تصيب والدتها وأبنائها جميعًا.

وبينما فارقت نور الحياة على الفور مع والدتها، أصيب ابنها يوسف بشظية في منطقة الدماغ نزف على إثرها لمدة ساعة قبل استشهاده. أما محمد وريتال أصيبا بجروح طفيفة.

وبعد ساعات تكشفت خيوط جريمة جيش الاحتلال التي راح ضحيتها قرابة 20 شهيدًا.

ووريت جثامين الشهداء تحت الثرى في مقبرة بمدينة دير البلح دون أن يلقي عبدالله نظرة الوداع الأخيرة على زوجته وابنه، فيما بقي 3 من أبنائه نازحين تحت ظل خيمة في منطقة الزوايدة.

لا يعرف عبدالله إن كانت الأيام المقبلة ستجمعه بأبنائه أم لا؟ لكنه قطع عهدًا على نفسه أن يفنى حياته كلها لأجلهم خاصة الرضيع محمد الذي أنجبته والدته بعد نزوحها بفعل الحرب ولم يحتضنه والده بعد.

ووفق معطيات لمنظمة "أنقذوا الأطفال" البريطانية في يونيو 2024، فإن 17 ألف طفل في قطاع غزة غير مصحوبين بذويهم ومنفصلون عنهم.

"ما كانت تأمله نور العثور على ملاذٍ آمن لها ولأبنائنا.. لكن للأسف فكرة النزوح التي فرضها جيش الاحتلال كانت أُكذوبة كبيرة، حيث لم يعد هناك مكان آمن في قطاع غزة".

يحتفظ عبدالله بذكريات لن يمحو مرور الزمان رسومها من الذاكرة. "كانت كل شيء بحياتي وأجمل الأشياء فيها.. لقد ترك استشهادها فراغًا كبيرًا لن يعوضه أحد" كما يقول.

ويقلب الشاب الثلاثيني مجموعة من الرسائل يحتفظ بها في هاتفه، كان قد تبادلها مع زوجته قبل استشهادها بساعات، عندما كتب لها: "قلبي بحاول أتصل فيكي.. طمنيني كيف أنتم؟"، فردت في آخر رسالة قصيرة لها: "نحن بخير لا تقلق.. دعواتك مثل كل يوم".

والآن يبدأ يومه وينهيه بالدعاء لهم أن يتقبلهم الكريم في جنات النعيم.

اخبار ذات صلة