في آذار/ مارس الماضي، قالت كامالا هاريس، نائبة الرئيس الأمريكي بايدن؛ إنّها درست الخرائط وتبيّن لها أنّه لا يوجد مكان يذهب إليه الفلسطينيون في رفح هربا من القصف الإسرائيلي. كان ذلك في سياق تحذيرها "إسرائيل" من تبعات عملية كبيرة في رفح لا تأخذ المدنيين بعين الاعتبار.
يمكن استخلاص مجموعة من الأفكار، حول النخبة السياسية الأمريكية الفاسدة باستدعاء هذا التصريح القديم نسبيّا، ثمّ مقارنته لاحقا بآخر مواقف هاريس المتعلقة بغزّة والمذبحة الإسرائيلية الجارية فيها، بدعم الولايات المتحدة الأمريكية، ومشاركتها فيها إلى درجة يمكن القول فيها إنّها حرب أمريكا قبل أن تكون حرب "إسرائيل".
تنمّ تصريحات هاريس تلك التي كانت في آذار/ مارس عن الطبيعة المركّبة للنخبة الأمريكية الفاسدة من الجهل والغطرسة، فبعد أكثر من خمسة شهور على المذبحة الإسرائيلية اهتمّت كاميلا هاريس بأن تنظر إلى خريطة قطاع غزّة لتفحص إن كان هناك مكان يفرّ فيه 2.3 مليون فلسطيني في شريط ساحليّ ضيق لا تزيد مساحته على 365 كيلومترا مربعا، والحرب مفروضة عليه كلّه بلا استثناء، وما بين بداية الحرب وتصريحات هاريس تلك كانت التقديرات تتحدث عن 32 ألف شهيد فلسطينيّ و74 ألف جريح.
شهور من المذبحة وهاريس تنام مطمئنة تماما، ولا تزورها أشباح الضحايا من النساء والأطفال، وقد كان رئيسها في تلك الشهور الأولى يكذب المعلومات حول أعداد الضحايا الفلسطينيين ويغطي المذبحة الإسرائيلية الظاهرة للعين المجرّدة؛ دون الحاجة إلى محاكم دولية أو تحقيقات لوصفها بأنّها عملية إبادة جماعية ممنهجة، ولم يكن ما نشرته الواشنطن بوست في كانون الأوّل/ ديسمبر 2023 عن كون بايدن لا يتعاطف مع الفلسطينيين بالرغم من أنّه يتعاطف مع الكثير من الناس؛ ليزيد سويّا في عقله وبصيرته معرفة بهذا العنصريّ المتغطرس!
هل كان يحتاج الأمر أصلا للنظر في خريطة غزّة التي لا تزيد على كونها نقطة غير مرئية على خريطة العالم ليتبين لنائبة رئيس أمريكا أن حربها مفروضة على كلّ ذرة رمل في قطاع غزّة؟! وهل كانت تخوض دولتها، وهي نائبة الرئيس فيها، حربها على تلك النقطة دون النظر في خريطة ساحة الحرب؟!
بالإضافة إلى ما في هذا التصريح من الدلالة على الجهل والغطرسة، ينبغي التذكير بأنّه كان في سياق تحذير "إسرائيل" من تبعات الهجوم على رفح في حال لم تأخذ المدنيين بعين الاعتبار. من نافلة القول إنّ ذلك كلّه تبخر، وهجمت "إسرائيل" على رفح، وتفهّمت إدارة الكذب والجهل والغطرسة والحرب والعنصرية ذلك.
وهنا يتساءل المرء: ماذا يعني أخذ المدنيين بعين الاعتبار؟! يمكن ترجمة هذه التصريحات الأمريكية إلى ما يلي: اقتلوا المدنيين الفلسطينيين ولكن بأعداد أقلّ، لا تقتلوهم وهم جوعى، اقتلوهم وهم شَباعى، دمّروا رفح كما دمّرتم ما قبلها من مدن القطاع واجعلوها غير صالحة للحياة، دمّروا مساكنها ومدارسها ومستشفياتها وجامعاتها ومخابزها وصيدلياتها ومساجدها ولكن اجعلوا عدد القتلى أقلّ!
بالتأكيد ليست مشكلة أمريكا في أعداد القتلى، فالدولة التي قتلت آلاف المدنيين في غارات "خاطئة" في العراق وسوريا وأفغانستان، بحسب آلاف التقارير الصادرة عن البنتاغون والتي نوهت إلى بعضها نيويورك تايمز في كانون الأول/ ديسمبر 2021 ونيسان/ أبريل 2022، والدولة التي شاركت أخيرا إلى جانب "إسرائيل" في اقتراف مذبحة هائلة في النصيرات ذهب ضحيتها أكثر من ألف فلسطيني بين شهيد وجريح؛ فقط لأجل استنقاذ أربعة أسرى إسرائيليين، بالتأكيد لا تقيم أدنى وزن للآمنين من النساء والأطفال إن كانوا في ساحة حرب أمريكية.
هاريس فقط كانت تبدي ضمنيّا ضيقها من فشل ربيبة دولتها في إنجاز المهمّة سريعا، ولو بالإبادة الجماعية، كي يعود بايدن، الرئيس الأمريكي الأكثر عنصرية وصهيونية في تاريخ أمريكا، قبل الانتخابات بوقت مناسب لاستئناف مشروعه التطبيعي بدمج "إسرائيل" في تحالف عربيّ يقوم على تصفية القضية الفلسطينية. طالت الحرب أكثر مما توقعت هذه النخبة الفاسدة والجاهلة والعنصرية، والتي رأسمالها فقط تلك القوّة الأسطورية لهذه الدولة الإمبريالية!
ينبغي التذكير أيضا هنا، أنّه وفي ذلك الشهر، أي آذار/ مارس، أصدر مجلس الأمن قرارا (متأخرا) لوقف الحرب مؤقتا في شهر رمضان الذي كان في طور الانتهاء، ورحّبت به حماس، ورفضته "إسرائيل"، فليُضم ذلك إلى سجل الأكاذيب الأمريكية المفضوحة وهي تزعم أنّ حماس هي من يعطّل وقف إطلاق النار! لكن لماذا إدانة "إسرائيل" دون راعيتها أمريكا، فهذه الإدارة الأمريكية هي التي ظلّت لشهور طويلة من عمر هذه الحرب وهي تقول "لا نؤيد وقفا دائما لإطلاق النار"؟! ولماذا تتورع هذه الإدارة عن الكذب المفضوح والاستخفاف بالعالم ورأسمالها هو القوّة المتغطرسة والجهل الفاحش؟!
لماذا استدعاء تصريح هاريس ذاك الآن؟! لأنّها (هاريس) أخيرا أقامت في البيت الأبيض حفل استقبال لأسيرة إسرائيلية خرجت في صفقة تشرين الثاني/ نوفمبر 2023 مع حركة حماس. جرى تجنيد الأسيرة من الاستخبارات الإسرائيلية لترويج دعاية الاغتصاب والعنف الجنسي. هاريس زايدت على الأسيرة الإسرائيلية بالنفخ أكثر في هذه الدعاية الكاذبة والبيّن كذبها ببديهة العقل، فقالت مثلا: "وارتكبت حماس عمليات اغتصاب جماعي في حفل نوفا"، وبقطع النظر عن علمنا الضروري باستحالة أن تفعل حماس ذلك لأسباب لا يمكن إلا وأن تجهلها هاريس، لكن هذه التي تذكّرت أن تنظر لخريطة غزة بعد أكثر من خمسة شهور من الحرب، هلا فكّرت كيف يمكن إقامة حفلة اغتصاب جماعي أثناء المعركة وتحت القصف الإسرائيلي؟!
لكن أليست هاريس كغيرها من أقطاب هذه الإدارة الفاسدة، التي نصّب كلّ واحد منها نفسه ناطقا باسم "إسرائيل" بحيث يزايدون على نتنياهو في إسرائيليته وفي صهيونيته؟ ثمّ أليست هاريس هذه كرئيسها المهووس بدعاية العنف الجنسي، حتى يتساءل المرء: لِمَ هذا الرجل لا تكاد تكون له قضية سوى هذه الدعاية؟! وهنا لا ينبغي أن يفوتنا أن الذراع القانونية للهيمنة الغربية على العالم، مدعي عام الجنائية الدولية كريم خان، قد ضمّن هذه الأكاذيب في قراره الأخير، لأنّه لا يمكن لنظام الهيمنة العنصري المتغطرس وهو يسعى للتوازن الشكلي المتأخر دفاعا عن مبرر وجوده بعد عقود من المذابح الإسرائيلية؛ إلا وأن يدين الضحية إذا اضطر للإشارة لجرائم الجلاد والذي هو بدوره من أدوات الهيمنة تلك!
بعد هذا العرض الموجز لطرف يسير من أكاذيب هذه الإدارة في فترة وجيزة، من هذا الذي يمكنه أن يصدّق هذه الإدارة، أو أن يتفاءل بأيّ خطوّة لها تُقدّم تلميحا إيجابيّا؟!
لا يقلّ عن ذلك أهمّية التنبّه لطبيعة النخب الفاسدة الحاكمة للولايات المتحدة لتنتقل بذلك إلى الهيمنة على العالم، هذه نخب محكومة بالمال السياسي الفاسد، ولا شيء يؤثّر فيها أكثر من أموال الممولين، ومصالح المجمع الصناعي العسكري، وكلّ شيء بعد ذلك يصير هامشا، وهو ما حاولنا بيانه في مقالة سابقة موسومة بـ"لماذا أعلنت الولايات المتحدة الحرب على غزة؟"، فيبقى أنّ هذا العالم يُدار بالمال الفاسد والكذب والجهل والغطرسة والعنصرية.