قائمة الموقع

بالخط العربي.. الشاب "سكيك" يقاوم هموم العدوان ويحتفي بالعيد (صور)

2024-06-18T20:15:00+03:00
بالخط العربي.. الشاب "سكيك" يقاوم هموم العدوان ويحتفي بالعيد

على أحد أرصفة دير البلح، يحتضن العشريني محمد سكيك أقلامه كما أبناءه، ويخط بها لوحات وعبارات تحمل وجع تسعة أشهر من النزوح وحرب الإبادة الجماعية.

قذف العدوان "محمد" وعائلته إلى "بحر"، لا يجيد السباحة فيه، من التشرد، وانعدام مقومات الحياة، والإصابة بالقصف، لكنه ظل متمسكا بـ"سلاح" الخط العربي لمواجهة كل ذلك.

يمسك محمد ذو البشرة المتناغمة مع قمح فلسطين، أقلامه ويخط عبارة يؤمن بأنها قريبة التحقق، هي: "غزة ستنتصر"، ويتفنن في تزيينها، وتمر أمام عينيه أحداث عاشها على مدار أشهر خلت.

على طاولة خشبية بسيطة، توسطت لوحة "محمد" وهو يكتب حروفها بشغف، قائلا لـ"فلسطين أون لاين": في أكتوبر/ تشرين الأول، أجبرني القصف المكثف إلى النزوح مع زوجتي وطفليّ: جلال (3 أعوام) وفرح (عامان) ووالديّ وأخي من حي الرمال وسط مدينة غزة لتبدأ رحلة لم أتوقعها من المعاناة.

نزح محمد ابتداء إلى شارع "الثلاثيني"، مرورا بحي الصبرة والنصيرات والزوايدة ورفح، وصولا إلى خانيونس.

يضيف وهو يخط الحروف بعناية: في "الصبرة" كان العدوان في بدايته وملامح الحياة لا تزال موجودة، لكن في النصيرات كانت موحشة وفي كلاهما لا أمان أبدا.


 

بعد خمسة أيام من نزوحه من منزله عاد محمد إليه، أملا منه بأن يتوقف العدوان قريبا، لكن ما حدث هو العكس، وقد وجد المربع السكني الذي يضم بيته قد نسف وركامه "على مد البصر".

فقد محمد بسبب النزوح أدوات الكتابة، وبات يعيد اقتناءها والبحث عنها.

حطت رحال محمد في الزوايدة وسط القطاع، وتزامن ذلك مع حلول فصل الشتاء والبرد القارس وانعدام المأوى.

وتكررت محطات نزوحه إلى أن صارت وجهته رفح التي مكث فيها ثلاثة أشهر، قبل أن يتوغل فيها الاحتلال بريا، ويتسبب في تشريد مئات الآلاف منها.

ورفح مع مدن جنوب ووسط القطاع هي المنطقة التي زعم الاحتلال أنها "آمنة"، لكنه لاحق فيها النازحين وقصفهم وشتت شملهم.

ولم تخل حكاية محمد من الإصابة، وقد تركت فيه جرحا غائرا جسديا ونفسيا.

"في أول يومين من العدوان انتقلت مع شدة القصف إلى شقة أخرى في منطقتي، لكن كل الأماكن كانت خطرة، والجدران تتهاوى علينا، وبينما كنت أحتضن طفلتي كاد حجر أن يسقط على رأسي تقريبا وأصبت بذراعي، ونجت فرح بأعجوبة"، يسرد محمد بعض فصول الحكاية.

ورافق محمد وعائلته كما كل النازحين ظروف شح المأكل والمشرب والدواء وتوفر كل أسباب المرض، بسبب الاكتظاظ في أماكن النزوح، ومحدودية القدرة على تصريف مياه الصرف الصحي مع منع إدخال الوقود، واستخدام الحطب بديلا عن الغاز.

في هذه الفترة خسر محمد 20 كجم من وزنه، وأصيب بإنفلونزا لم تغادره لثلاثة أشهر متتالية.


لم ينقطع محمد ولو لوهلة عن النظر إلى لوحته وخط حروفها، لكن لم تنصرف عن نظره أيضا تفاصيل معاناته، ومنها البيئة التي يعيشها طفلاه حاليا وتشبه كل شيء إلا الحياة.

يقول: "كانا في منزلي أنيقين، وهنا في الخيمة بخانيونس تراهما على الرمال، لا نظافة في المكان، بل حرارة، وحشرات، لا أرض ولا سقف يؤويك، يمر بائع المياه فيهب طفلك إليه حاملا قارورة لتعبئتها، ويسارع إلى اصطحاب العجين لفرن الطينة، بدلا من أن يفكر في رياض الأطفال".

"إنها ظروف سيئة جدا"، هكذا يصف محمد حياة الخيام، متابعا: "كنت أدعو الله ألا يكتب عليّ العيش فيها، ولما اضطررت إليها وجدتها أسوأ مما توقعت".

فرغ محمد أخيرا من لوحته "غزة ستنتصر"، واستعاد حكايته مع الخط العربي، الذي ورث مهارته وحبه عن والده.

"علاقة حب"

كان الشاب موهوبا بكتابة الخط العربي منذ الابتدائية، وحظي باهتمام مدرسيه الذين لاحظوا جمال خطه وترتيب كراسته وشكروه على مجهوده.


 

وفي مرحلة الثانوية زاد اهتمامه بالخط العربي، وتطورت العلاقة بينهما، إلى أن التحق بكلية الفنون الجميلة، وأنجز مشروع تخرجه عن إعادة تأهيل مركز رشاد الشوا الثقافي وتحويله إلى دار الخط العربي، قبل أن يحوله المحتل إلى أثر بعد عين.

والخط العربي في نظر محمد "قيمة ورسالة وفن بل هو أقوى من أي فن، وهو البوابة الأساسية للفنون الإسلامية، ولو راجعنا التاريخ سنجد العمارات القديمة والحديثة والمباني مرتبطة بصلة وثيقة بالخط العربي".

ويتسلح الفنانون المسلمون والعرب بالخط العربي، كما يقول محمد، لافتا إلى شهادة قال فيها الرسام والنحات الإسباني بابلو بيكاسو: "أبعد نقطة وصلت إليها في الرسم وجدت الخط العربي سبقني إليها".

يُقلب محمد أوراق كراسة خط فيها آيات وأحاديث وعبارات دارت في خلده خلال العدوان، ينوي تحويلها إلى لوحات، معبرا عن اعتزازه بالخط العربي الذي يرتبط بالقرآن الكريم.

"عندما يمسك الخطاط قلمه تجده يكتب آية أو حديثا أو حكمة"، يواصل حديثه، مبينا أن الخط العربي قديم ومرتبط بالدولة الإسلامية، ولو نظرنا إلى التاريخ سنجد مخطوطات ورقاع خطاطين كابن البواب وابن مقلة موجودة وتمثل لنا تاريخا وحضارة ومرجعا ثقافيا غنيا بالمعلومات.

ورغم الاعتقاد الشائع بضعف ثقافة القراءة في المجتمع العربي، فعلى النقيض يشيد محمد بالاهتمام الشديد من الفلسطينيين بالخط العربي رغم الحروب العدوانية والدمار، قائلا: "عندما يراني مواطن أكتب لا يمر مرور الكرام بل ينتبه إليّ، وأجد عنده ثقافة فنية وتقديرا للمجهود، كما أنني شاركت بمعرض لحن الحروف بمركز رشاد الشوا قبل العدوان وشهد إقبالا من الصباح حتى المساء على مدار ثلاثة أشهر".

تحمل نظرات محمد إلى كتاباته فخرا بها، مشيرا إلى أنها مرتبطة بالإلهام الذي يأتيه في أوقات مختلفة على حين غرة.

وبعبارة أخرى يقول الخطاط: إن الكتابة بالخط العربي "لها روح".

ويبدو ارتباط محمد بالخط العربي كـ"علاقة حب" قادته إلى قبوله بالمشاركة مع 30 منافسا في فعالية بالأردن، بعد قبول نماذج من أعماله، لكن الحرب العدوانية على القطاع قطعت طريقه في اللحظات الأخيرة، ولم يسافر.

على طبق دائري، خط محمد عبارة "أضحى مبارك" احتفاء بهذه المناسبة الدينية العظيمة للمسلمين، متحاملا على ألمه من حلول العيد هذا العام وسط حرب الإبادة الجماعية للغزيين، وقد شردهم العدوان، وفرق بينهم، وأفقدهم وأصاب منهم عشرات الآلاف.

يتسلل صوت موج البحر إلى أذنيّ محمد كأنما يمنحه لحظة سكينة وهدوء، قبل أن يقول: "الخط ينسيني الهم قليلا، أفرغ عبره كل متاعبي ومشاهد القصف والدمار وضيق العيش وطاقتي السلبية".

ويشير إلى كراسته، قائلا: "رغم أنها بسيطة لا يتجاوز حجمها 20 سم لكن كأنها ولد من أولادي".

عزيزة عليه تلك الأقلام والكراسة، وقد خط فيها مشاعره على مدار "محطات ألم" قاومها بالخط العربي.

اخبار ذات صلة