فلسطين أون لاين

​تشريح الفستق واللوز "فَلَس وَوَنَس"

...
خان يونس - حنان مطير

صوت "تكتكة", وضحكاتٌ وحكاياتٌ، ورائحة قهوة منعشة تنبعث من هناك.. اختلطتْ جميعها بداخلي وأنا أقترب.. حيث اجتمعت عائلة أبو عدي أبو طعيمة-43عاماً-على طاولةٍ خشبيةٍ صغيرة، يفترشون الأرض ويشرّحون أكوام الفستق بشفراتٍ صغيرة، لِتُحدِث صوتاً ينادي "تِك.. تكِ.. تِك".

أتيتُ بصُحبةِ ابنة الحيّ إنعام أبو طعيمة لآنس بالحديث معهم ومشاركتهم شيئاً من عملهم، فأمامهم حبات فستقٍ كثيرة لا يكفي النهار والليل بطولِه لتشريحها.

فعلى أصوات الديوك تصدح في عبسان الكبيرة، استيقظ أبو عدي نشيطاً، صلّى الفجر وتناول إفطارَه ثم انطلق ليجلب أربعة أكياسٍ من الفستق من أحد المشاغل القريبة من بيتِه في مدينة خانيونس جنوب قطاع غزة.

"كل كيس يزِن عشرة كيلو نقوم بتشريحه، ونحصل مقابله على عشرة شواكل فقط، في حين أن مواصلات الجامعة لابنتي يوميًا تصل لعشرة شواكل" يروي لـ"فلسطين".

أبو عدي الأب لخمسة أولاد وخمس بنات، منهم ابن وابنة يدرسان في الجامعة، يعمل في تشريح اللوز والفستق بسبب "الفَلَس" وعدم توفر عمل آخر، كما يقول، أما زوجته "سهيلة" التي ترافقه عمله دوماً فتعبّر: "أستيقظ أحيانًا بعد منتصف الليل على صوت (طقطقة) الفستق أو اللوز فأشعر بـ(الوَنَس)، ويكون حينها زوجي مستيقظًا، لإنهاء تشريح الكيس بالكامل، وضمان جلب كيس جديد باليوم التالي".

ولأطفال أبو طعيمة نصيبٌ من العمل، بعد عودتهم من المدرسة، ففي ذلك البيت لا أحد يجلس كسولاً، الكل ينهمك في تشريح الفستق واللوز، وإن تكاسل أحدُهم يقومون بتقسيم الكمية وتوزيعها بالتساوي ثم البدء في العمل كمسابقة فيها الفائز من ينهي مهمته –بالطبع- أولاً، تعلق أم عدي: "عند التقسيم يتحمّس الكل للعمل صغاراً وكباراً ويكون الإنجاز أسرع والعمل أمتع".

لو حسبناها مع عائلةٍ مكونةٍ من عشرة أفرادٍ جميعهم يعملون في هذه المهمة فإن يومية كلّ واحدٍ منهم تساوي "واحد شيكل فقط"!

أبو عديّ وزوجته هما من يصنعان المتعة بحكاياتهم الجميلة أثناء العمل، وقهوتهما التي لا تفارق طاولتهما، ولولا تلك الأشياء البسيطة لما تمكنا من الاستمرار خاصة وأن العشرة شواكل لعائلةٍ كبيرةٍ تأتي "بطلوع الروح"، حسب وصفهم.

فطول الجلسة يتعبهم، ويسبب لهم الكثير من الآلام في مفاصلهم، بينما الشفرات الحادة تُشقّق أصابعهم، وهذا الحال القائم منذ تسع سنوات ما لا يمكن تغييره أبداً.

ويصعب العمل أكثر حين يكون الفستق غير مقشرٍ، وتكون القشرة الحمراء ما تزال ملتصقة بحبة الفستق ويضطرون لتحميصها أحياناً او تركها تحت الشمس حتى تجف، ثم يبدؤون بفصل القشرة والبدء بالتشريح، أما القشور فيستخدموها لإشعال النار شتاءً.

عاد الابنان عديّ وهديل من الجامعة، وقد استعدّت هديل لمشاركة أهلها العمل، أحد إخوتها الصغار يقول ممازحاً: "تشريح كيس الفستق وراها وراها، عشان تقدر توفر مواصلات الجامعة"، بينما عديّ لا يحتمل هذا العمل، فنادرًا ما يشارك عائلته تشريح الفستق واللوز، فتجده يستثمر وقته في أعمال الزراعة متى ما توفرّ، كي يوفر مواصلاته هو الآخر.

ويأتي الجدّ أبو مصطفى البالغ -83 عاماً- ليؤنسهم بحكاياته القديمة، وفي بعض الأحيان يشاركهم العمل، ثم يعود لكرسيّه وعكازه المهيب يحتسي فنجان قهوة مُرّة.

طال العمل ومعه الحديث الجديّ تارةً والمزاحيّ أخرى، فالجدّ أبو مصطفى حكيم العائلة التي لا يتزوّج حفيدٌ من أحفادِه إلا بموافقته ومباركتِه؛ يبحث اليوم عن عروس جميلةٍ تؤنسه وتشاركه حياتَه المتبقية، مقابل حلقة من الذّهب لمن يحقّق له ذلك، فوعدتُه أني أنا من سيحظى بتلك الحلقة.

أنهيتُ حديثي بعد أن جرّبت تشريح بعض الفستق ولمستُ فيها كم هذا العمل مرهق ومتعب لليدين والظهر والرّجلين، وشربت فنجان قهوةٍ من أيادٍ وقلوب طيبةٍ، ثم التقط لنا ابن عمّهم كامل أبو طعيمة صورةً لتكون ذكرى اجتماعنا بأجمل العائلات.