قائمة الموقع

انسحاب "معسكر الدولة" من مجلس الحرب: الدوافع والارتدادات

2024-06-12T10:57:00+03:00

لم يكن إعلان رئيس حزب "معسكر الدولة" وزعيم المعارضة في دولة الاحتلال، "بيني غانتس"، مساء التاسع من يونيو/حزيران الجاري انسحابه من حكومة الطوارئ برئاسة "بنيامين نتنياهو"، ودعوته إلى إجراء انتخابات إسرائيلية مبكرة، مفاجِئًا للمتابِعين، إذ مثَّلَ تاريخُ الإعلان نهايةَ المهلةِ التي سبق وحدَّدها "غانتس" لرئيس وزراء الاحتلال،"بنيامين نتنياهو"، لتقديم رؤية واضحة بشأن مستقبل الحرب على قطاع غزة وسيناريوهات "اليوم التالي"، وتوضيح استراتيجية محدَّدة وواضحة للعمل بعيدًا عن الاستثمار السياسي الفردي، ومنح الأولوية لقضية إعادة الأسرى وإنجاز صفقة للتبادل على اشتراطات أعضاء الائتلاف الحكومي، خصوصًا الوزيرين "إيتمار بن غفير" و"بتسلئيل سموتريتش"، زعيمي كتلتَي "الصهيونية الدينية" في الكنيست.

غير أن إعلان "غانتس"، الذي تلته استقالات الوزراء في مجلس الحرب من "معسكر الدولة"، "غادي أيزنكوت" رئيس الأركان السابق، والوزير "هيلي تروبر"، يَحمل العديدَ من الدوافع التي حفَّزَت اتخاذ هذه الخطوة الدراماتيكية في هذا التوقيت بالذات، فيما سيُحدِث هذا العديدَ من الارتدادات على أصعدة متعددة، داخل دولة الاحتلال وخارجها.

"معسكر الدولة".. والميل التدريجي إلى يسار المركز

منذ انطلاق "معسكر الدولة"، هدِف "غانتس" إلى نسج تشكيل سياسي يَحمل مقوماتِجمع أكبر كتلة انتخابية ممكنة، عبر تقديم الحزب بوصفِه نوعًا من إعادة إحياء الحضور القوي للشخصيات الوازنة وذات التاريخ، في الوقت الذي تعاني فيه "إسرائيل" من غيابِ"الكاريزمات" القيادية وهيمنةِ "بنيامين نتنياهو" على المستوى السياسي لأكثر من عِقد وحرصِه على تصفية خصومه سياسيًّا.

استثمر "غانتس" في الوزن الذي عكسه جنرالات الجيش في خلال أزمة التعديلات القضائية في "إسرائيل"، وسعى إلى حصد هذا الوزن في حزبه، بحثًا عن حصد كتلة شعبية واسعة انطلاقًا من هذا الاعتبار، إلا أن المعضلة الرئيسية التي بقيت تواجهه تمثلت بوجود جناحين مهمين في الحزب يَحملان توجهاتٍ سياسيةً فاقعة، يَحمل الأول توجهات يمينية مِن صُلب حزب "الليكود"، وهو الوزير المستقيل "جدعون ساعر"، الذي شكَّل خلافُه مع "نتنياهو" عنوانَ تحالفِه مع "غانتس"، فيما كان على الجناح الآخر رئيس الأركان السابق والوزير المستقيل من مجلس الحرب، "غادي أيزنكوت"، الذي يَحمل توجهاتٍ يساريةً جادةً ويعبِّر عنها بوضوح، ويقدِّم نقدًا لاذعًا في مواضيع الأمن القومي والبعد الاستراتيجي لوضع "إسرائيل" في الوقت الحالي. سعى "غانتس" من خلال هذا التنوع إلى حصد أكبر كتلة ممكنة من الناخبين، إلا أن ذلك في الواقع لم ينعكس على عدد المقاعد التي حصدها المعسكر في انتخابات الكنيست الأخيرة، كون كتلة "ساعر"الانتخابية كانت محدودة، فيما لم يَحصد حضور "أيزنكوت" في بداياته الأضواءَ اللازمةَلحصد كتلة واسعة.

شكَّلَ انسحاب "ساعر" من "معسكر الدولة" جنوحًا واضحًا في توجهات الحزب نحو يسار المركز، بسبب تأثير "أيزنكوت" الذي لا يتوانى عن التصريح اللاذع بانتقاداته لـ"نتنياهو" وسياساته، إلى جانب انتقاداته لشكل وطبيعة استراتيجيات التعامل الإسرائيلي مع الجبهات المتعددة المفتوحة مع دولة الاحتلال، والأمر ذاته في أطروحات التعامل مع سيناريوهات "اليوم التالي".

رفعَت استطلاعاتُ الرأيِ أسهُمَ "معسكر الدولة" منذ الاحتجاجات المعارِضة لبرنامج ائتلاف "نتنياهو" للإصلاحات القضائية في "إسرائيل"، واستمر هذا الارتفاع بعد السابع من أكتوبر/تشرين الأول الماضي، والانضمام إلى مجلس الحرب، وقد سجَّلَ الحزبُ تقدُّمًاواسعًا على حساب زعيم المعارضة في دولة الاحتلال، "يائير لابيد"، من جانب، وكتلة "نتنياهو" الانتخابية من جانب آخر، في الوقت الذي قدَّم "معسكر الدولة" نفسه للجمهور بأنه "المعارض الواعي" الذي يضع كل الخلافات جانبًا أمام مصلحة "إسرائيل"، ما سمح له ولزعيمه "غانتس" بالتربع في صدارة استطلاعات الرأي على مدار أشهر الحرب حتى الشهر الثامن منها وبداية التغير في الأوزان.

دوافع قرار الانسحاب

تتمثل دوافع قرار انسحاب "معسكر الدولة" من حكومة الطوارئ برئاسة "نتنياهو" بالتالي:

- خلاف "نتنياهو" مع الولايات المتحدة: حافظ "غانتس" وحزبه منذ البداية على علاقة متميزة مع الولايات المتحدة، ما انعكس في دعوتها له (دون التنسيق مع "نتنياهو") لزيارتها، إضافةً إلى الحرص الدائم من الإدارة الأمريكية على التواصل معه وإجراء مشاورات دائمة، ما وسَّع الشرخ ما بين "غانتس"و"نتنياهو" الذي يحظى بعلاقة متوترة مع الإدارة الديمقراطية في البيت الأبيض، وبالتالي فإن زيادة هوة الخلاف بين الولايات المتحدة و"نتنياهو" كانت من أهم محفزات تحرُّك "غانتس" للانسحاب من مجلس الحرب.

- سياسة "نتنياهو" الاستخدامية لمجلس الحرب: بات واضحًا لـ"غانتس"وأعضاء حزبه أن "نتنياهو" يَستخدم مجلسَ الحربِ أداةً دون أن يأخذ المجلس صلاحياتِه بالمعنى الفعلي والحقيقي، ففي المحصلة يتحكم "نتنياهو" بكل شيء، ويَستخدم المجلسَ والكابينيت الموسَّع وفق احتياجات وضرورات تمرير أي قرار يوافق مصلحتَه، ويضع أمام كل مجلس ما يتناسب مع حاجته السياسية، ماهمَّش حضور "غانتس" وحزبه في اتخاذ القرارات الجوهرية والمصيرية.

- ارتهان "نتنياهو" المستمر لقادة الصهيونية الدينية: بات من الواضح أن "نتنياهو" لن يغادر مربعَ الحفاظِ على الانسجام مع شركائه في الائتلاف الحكومي، خصوصًا "بن غفير" و"سموتريتش"، وبالتالي فإنه يدفع في اتجاه مواقف وقرارات تنسجم مع توجهاتهم وتتجنب الاصطدام معهم، وسط امتناعهم عن التواني عن ابتزازه المستمر بحل الحكومة وإنهاء الائتلاف.

- تجنُّب "نتنياهو" الإجابةَ على الأسئلة الكبيرة (أهداف الحرب، و"اليومالتالي"): بات عناوين أهداف الحرب و"اليوم التالي" للحرب، والصيغ الفضفاضة التي لا يمكن قياسها، والتهرب من تحمُّل المسؤولية، عناوينَ خلاف كبيرة يرفض "نتنياهو" تقديمَ إجابات واضحة بخصوصها، ويكتفي تحت الضغط الكبير بتقديم صيغ عامة لا تصلح لأنْ تُشكِّل أساسًا واقعيًّا لأي شيء.

- التهرب من استحقاقات إعادة الأسرى: يتمثل ذلك بسياسة "نتنياهو" في التعامل مع ملف التفاوض، والتلاعب المستمر بسقف التفويض للوفود المفاوِضة،والتعطيل المستمر لكل الصيغ التي يمكن أن تُفضي إلى صفقة تبادل تضمَن عودة أسرى الاحتلال على قيد الحياة، وسط تعمُّد رئيس وزراء الاحتلال تجنُّب وضع المشهد بوضوح أمام مجلس الحرب وحجب العديد من التفاعلات بالخصوص عنهم.

- الاعتبارات الانتخابية وتغير الأوزان في استطلاعات الرأي: تقف الدوافع الانتخابية دائمًا خلف العديد من توجُّهات وسلوك "غانتس"، الذي يبحث عن رفع أسهمِه السياسية والحفاظ على الكتلة الجماهيرية التي حققها في خلال الأشهر الأخيرة، وبالتالي فإن التغير في استطلاعات الرأي دفعَه إلى إعادة تقييم موقفه الحالي، إذ إن غياب حضوره الحقيقي وبهْت وخفُوت تأثيرِه في قرارات الحرب وتلاشي حضوره أمام "نتنياهو"، خفَّض أسهُمَه الانتخابية، ما دفعَه إلى اتخاذ خطوة كبيرة لترميم حضورِه وإعادة انخراطه في أنشطة المعارضة.

ارتدادات قرار الانسحاب

أما عن ارتدادات قرار "معسكر الدولة" بالانسحاب من حكومة طوارئ الاحتلال برئاسة "نتنياهو"، فتتمثل بالتالي:

- زيادة عزلة "إسرائيل" الدولية: سيؤدي قرار الانسحاب إلى إعادة صورة نظام الحكم في "إسرائيل" إلى حكومة يمينية فاشية متطرفة تخوض حرب إبادة بحق الشعب الفلسطيني، لا يتوانى قادتها عن التصريح علانية برغبتهم في مسح هذا الشعب وإعادة احتلال قطاع غزة وإعادة الاستيطان إليه، إذ كان يَخلق وجودُ"غانتس" وحزبه في مجلس الحرب نوعًا من التوازن، ويعطي صورةً حول توحُّد "إسرائيل" خلف الحرب، أما انسحابه الآن فيعيد الأضواء إلى حكومة المستوطنين التي لا تحظى بقبول دولي، وسط تصاعد الانتقادات والملاحقة لـ"إسرائيل" على خلفية جرائم الحرب واتهامات الإبادة واستدعاءات الجنائية الدولية.

- ارتفاع منسوب الضغط الأمريكي: كان وجود "غانتس" وحزبه في حكومة الطوارئ يُشكِّل نوعًا من الضمانة الأمريكية بشأن أن الحرب تحمل أهدافًا منطقيةًمُجمَع عليها إسرائيليًّا، أما هذا الانسحاب فيُضعف من موقف مناصِرِي "إسرائيل" في الإدارة الأمريكية، لصالح منتقِدي سياسة "بنيامين نتنياهو"،ويعزِّز من الطرح القائل بأن الأخير يَستخدم الحرب لأهداف سياسية ويرتهن لتوجهات ائتلافه الحكومي اليميني.

- زيادة زخم الحراك الجماهيري المعارض: سيؤدي الانسحاب وانهيار مجلس الحرب إلى رفع حجم وزخم وتأثير الحراك الجماهيري المعارض لـ"نتنياهو"وسياساته، بما يشمل حراك أهالي الأسرى، والحراك الداعي لاستقالة رئيس وزراء الاحتلال والذهاب إلى انتخابات.

- إعادة توحيد المعارضة في "إسرائيل": أضعَفَ انضمام "غانتس" إلى مجلس الحرب من حضور وتأثير بقية مكونات المعارضة في "دولة الاحتلال، فيما سيُشكِّلانسحاب "معسكر الدولة" وانهيار مجلس الحرب فرصةً لإعادة ترتيب صفوف المعارضة الإسرائيلية وتوحيد خطابها وبرنامجها في مواجهة "بنيامين نتنياهو"وائتلافه الحكومي.

- إعادة مفاتيح قرارات الحرب إلى الكابينيت الموسَّع: سيؤدي انهيار مجلس الحرب إلى انهيار أحد أدوات "نتنياهو" في التملص من طرح العديد من القرارات على الكابينيت الموسَّع ومنح "بن غفير" و"سموترتيش" فرصة المشاركة فيها، ما سيعيد الأمور إلى النقاش في الكابينيت الموسَّع ويَخلق المزيد من التعقيدات إلى طريقة إدارة "نتنياهو" للحرب وفق ما ينسجم مع حاجته السياسية.

كخلاصة.. راهن "بنيامين نتنياهو" على تردد "بيني غانتس" المستمر، وسعَى إلى تحويل الإنجاز التكتيكي بنجاح عملية النصيرات في تحرير أربعة من أسرى الاحتلال إلى دفع الأخير إلى التفكير بجدية في قرارِه، أو على الأقل إلى الحد من تأثير هذا القرار أمام بهجة الإنجاز، الأمر الذي لم ينجح، بل على العكس، فقد ساهم هذا القرار في إعادة سحب الأضواء من محاولة "نتنياهو" تضخيم الإنجاز، والعودة إلى الأسئلة الكبرى حول مجرى الحرب واستراتيجية إدارتها، إلى جانب المصير المجهول لأسرى الاحتلال، وسط تجاهل "نتنياهو" لاستحقاقات الصفقة، والأمر سواءٌ في سيناريوهات "اليوم التالي" التي يرفض رئيس وزراء الاحتلال الإجابة عنها، ما يجعل القرارَ إضافةً جديدةً إلى مستويات الأزمة التي يعاني منها "الأخير، ويَفتح الأبواب مشرعةً أمام شكل تعامُل "نتنياهو" مع هذا الضغط، فيما سيُشكِّل البحثُ المستمرُّ عن إنجازات تكتيكية أخرى بالمعنى الميداني المادةَ الأهمَّ لمحاولة تشكيل صورة للنصر، ودليلًا على جدوى استراتيجية الحرب في تحقيق نتائج، وسيحاول "نتنياهو" التملص ما استطاع من الاستحقاقات الكبرى وتجنُّب الاشتباك مع مكونات ائتلافه الحكومي.

اخبار ذات صلة