قائمة الموقع

قصَّة: عائلة "ماضي".. 25 شهيدًا وأفراح تحوَّلت لمأتم !

2024-06-10T17:08:00+03:00
عائلة "ماضي".. 25 شهيدًا وأفراح تحوَّلت لمأتم !

كُتِبتْ أسماء المدعوين على كروت الفرح المقرر في 19 أكتوبر/ تشرين أول 2023، جهزت العروس رهف سهيل ماضي نفسها لمغادرة بيت عائلتها، كل شيء جرى ترتبيه، بدلة الفرح، مراسم حفلة الحناء المقررة في الثاني عشر من الشهر ذاته، وكانت على وشك نقل حقائب ملابسها لبيت العريس.

لم تكن هذه الفرحة المنتظرة في العائلة التي كانت على موعد مع فرحين آخرين لأبناء عم رهف وهما الشقيقان العريسان أحمد ومحمد عبد الرحمن ماضي المقرر في السابع من نوفمبر/ تشرين ثاني، فتجهزت شقق العريسين وحدد موعد الفرح وطبعت كروت المدعوين وحجزت صالة الفرح، وكانت العائلة على موعد مع ثلاثة أفراح متتالية ستصدح فيها أصوات الأهازيج وتفرح العائلة بأول أبنائها الشباب.

مع اندلاع حرب الإبادة الجماعية في السابع من أكتوبر الماضي، واشتداد القصف المدفعي والأحزمة النارية على كل مكان في مدينة غزة وبحي الزيتون الذي تسكن فيه العائلة، فنزحت عائلة ماضي المكونة من جدة وخمسة أشقاء وزوجاتهم وأولادهم إضافة لشقيقة متزوجة لهم نزحت معهم إلى مدينة "دير البلح" بمحافظة وسط قطاع غزة.

عاش أكثر من 25 فردًا في بيتٍ مكون من طابقين نزحوا إليه برفقة عائلات أخرى، تشاركوا في لقمة العيش يحمل كل منهم هم الآخر، تجمعوا على مائدة واحدة ينامون في مكان واحد، تربطهم مودة وأخوة هي أجمل ما بقي لهم بعد هدم منازلهم وذكرياتهم إضافة لتدمير أحلامهم وقتل ثلاثة أفراح فتحت العائلة أوسع أبوابها لاستقبالها.

جاء التاسع عشر من أكتوبر ولم تفرح العروس رهف وخطيبها صبحي الذي نزح مع عائلتها، وبقيت شقتهما الصغيرة فارغة من أصوات الفرح تنتظر عودتهما إلى غزة لعقد الفرح المؤجل.

لكن دبابات الاحتلال تقدمت لمنزل عائلتها الواقع بحي الزيتون ووصلت إلى حقائب ملابسها التي اختارتها بعناية وهي تصول وتجول مع أمها، فهدمت ذكريات العائلة، وغرست أنياب أسنانها بلا هوادة في أعمدة المنزل، ومزقت حقائب العروس "رهف" التي غابت تحت الردم.

رحيل جماعي

ظهر الخامس من ديسمبر/ كانون أول 2023، أعدت الجدة "أميرة" طعام الغداء الأخير لأولادها وأحفادها، فتجمع أبناؤها عبد الرحمن وأحمد ومحمد وأولادهم وابنتها حليمة التي نزحت معها حول مائدة الغداء، وفي الطابق العلوي كانت زوجة ابنها سهيل ووالدة رهف تجلس مع نسوة لعائلات أخرى استأجرت الطابق العلوي من المبنى، فغادرت المجلس لتعد طعام الغداء لزوجها الذي كان يصلح سيارته بجوار المبنى ويقف بجانبه ابنه الوحيد خليل وخطيب ابنته صبحي، بجوارها كانت  رهف وشقيقاتها ريم وحلى ولمى يساعدن والدتهن، بينما استأذنت طفلتها لانا (9 سنوات) من والدتها النزول عند جدتها وأعمامها للعب مع أولادهم.

هكذا كان المشهد وهكذا توزع كل شخص في ناحية، وهكذا رسم  القدر حياة للبعض وشهادة لآخرين لحظة سقوط صاروخ إسرائيلي يزن طنًا أحال البيت المكون من طابقين لكومة ركام، وافترش الدخان سماء المنطقة.

"طرتُ في الهواء ووجدت نفسي مع بناتي اللواتي أصبن بكسور متفاوتة في الشارع" تروي صابرين ماضي لـ "فلسطين أون لاين" قصة عائلة تحولت أفراحها إلى مآتم، وارتدى العرسان الكفن بدلا من بدل الزفاف.

اقتلع الاحتلال شجرة العائلة من جذورها وقتل معظم أفرادها واستشهد منها 25 فردا إضافة لنحو عشرين شهيدا من العائلات الأخرى التي نزحت لنفس المبنى فكانت حصيلة المجزرة نحو 45 شهيدًا في ضربة واحدة، ونجى من عائلة ماضي سهيل وزوجته صابرين وبناته رهف ولمى اللتين أصيبتا بكسور في الحوض والوجه، ونجت ابنتاه لمى وحلا واستشهدت طفلته لانا، ونجى ابنه خليل الذي أصيب بكسر بالقدم ونجى خطيب ابنته الذي أصيب بالدماغ والبطن، إضافة لنجاة أربعة من أبناء أخوته الذين أصبحوا في رعاية عمهم بعد استشهاد آبائهم وأمهاتهم وأشقائهم، خرجوا لإكمال الحياة بلا عائلة وبلا حضن والدين تملؤهم الكسور والجروح والإصابات.

محمود عبد الرحمن ماضي البالغ من العمر تسع سنوات نجى، واستشهد سبعة من أفراد أسرته، بقي محمود يحمل اسم والده الذي كان يستعد للاحتفال بزواج ابنيه أحمد ومحمد فاستشهدا معه، فتحول الفرح إلى مأتم، وأطلق الاحتلال رصاصه على فرحتهم المنتظرة التي لم يعشها محمود.

أصيب في المجزرة عبد الرحمن محمد ماضي (18 عامًا) بشلل بعد إصابة عموده الفقري، فبات قعيدًا على كرسي متحرك، ووحيدا بلا عائلة بعد استشهاد 8 من أفراد أسرته، يحتاجُ إلى رعاية خاصة وعلاج طويل، ولا يمكن إغفال الجانب النفسي المؤلم إضافة للمضاعفات الصحية بعد فقده لعائلته، وكذلك أصيب شقيقه خليل.

خليل أحمد ماضي (عامان ونصف)، هذا الصغير الذي نجى لم يعِ حجم ما جرى فيعتقد أن والديه وشقيقاته (تالين وتالا وشام) الذين استشهدوا في المجزرة سيعودون إليه.

استشهد في المجزرة أمير ماضي وزوجته وهما عريسان مضى على عقد مراسم فرحهم ثلاثة أشهر، عاشت العائلة حينها أياما جميلة في زفاف أصغر إخوتهم، وكانوا ينتظرون ثلاث فرحات في شهر أكتوبر ونوفمبر وجميعها لم تتم بسبب اندلاع الحرب المدمرة.

 استشهدت الجدة "أميرة" هذه المسنة التي كانت تفرد جناحي الحب والدفء لتضم جميع الأخوة بعد وفاة والدهم، وبدلاً من ارتدائها ثوبها الفلسطيني الذي يشع بالأصالة وبريق الفرح في مراسم زفاف أحفادها "محمد وأحمد ورهف" ارتدت  الكفن كأحفادها العرسان، واستشهدت معها ابنتها حليمة وأولادها الذين نزحت بهم مع أخوتها إلى مدينة دير البلح التي صنفها الاحتلال على أنها منطقة آمنة، لكنها لم تكن كذلك.

تشتت بعد المجزرة

بمساعدة الجيران والمعارف وبعد ساعات طويلة من البحث وإزالة الركام، تمكن سهيل ماضي من انتشال جثث أخوته عبد الرحمن ومحمد وأحمد وأمير ووالدته وشقيقته وابنته لانا وأولاد أخوته، وقف أمام 25 جثة وصلى بهم صلاة الجنازة، كان مشهدًا قاسيًا أن يقف أمام أخوته الذين عاشوا معه حياة سعيدة قبل الحرب، وتشاركوا في المعاناة خلال الحرب، ورحلوا وتركوه وحيدًا يكمل مسيرة النزوح بدونهم، وتركوا له أربعة من فلذات أكبادهم ليعيشوا معه.

فقد سهيل طفلته لانا، وتشتت أسرته فزوجته سافرت لعلاج ابنتها لمى في دولة الإمارات، وابنته العروس رهف التي كانت ستزف إلى عريسها في 19 أكتوبر الآن تحاول التعافي من آثار الكسور التي تعرضت لها في دولة مصر، "منذ حادثة المجزرة لم نجتمع في مكان واحد" تقول زوجته.

"لا يمكن وصف ألم الفقد الذي حل بالعائلة" هذا ما اختفى وراء صوت صابرين وبين ثنايا كلماتها، فالفقد لا وصف ولا دواء له، عندما لم تعد الوجوه التي اعتدت أن تشرق على قلبك كل صباح موجودة، فتنظر إلى صورك وذكرياتك معهم على هاتفك الخلوي، في لحظة تتجرع فيها مرارة الفقد وأنت تشرب من كأسه المر، كأنك تعيش في حلم تتمنى أن تستيقظ منه لكنك تعيش حقيقة مرة مؤلمة وقاسية بأن تكمل مسيرة الحياة بأعداد قليلة من أسرتك في لحظة تضاءلت فيها العائلة الممتدة وتكسرت أجنحتها كزجاجة لا يمكن أن تلتئم.

تتوقف عند ترتيبات الفرح "كنا نستعد في 7 أكتوبر لتوزيع بطاقات دعوة لحفلة الحناء، فكتبنا الأسماء وحجزنا الأغراض اللازمة لعقد الفرح، لكن كل الأفراح انتهت، ومن كنا نستعد للفرح معهم رحلوا شهداء في مجزرة بشعة".

عن حياة مليئة بالترابط الأسري تقول ماضي "عشنا كأي عائلة كنا نجتمع في مواسم الأعياد، ونسكن في بيت واحد، ولشدة ترابطهم نزح الأخوة مع بعضهم البعض في بيت واحد في منطقة دير البلح".

يعمل سهيل الوحيد الناجي من أخوته في هيئة الشؤون المدنية، بينما تربى شقيقه الشهيد عبد الرحمن بين الأراضي الزراعية فكان مزارعا منذ صغره وورث المهنة لنجليه الشهيدين العريسين محمد وأحمد فعملا في ذات المجال الزراعي، وعمل شقيقه الشهيد محمد سائقا بينما عمل شقيقه الشهيد أحمد في شركة الاتصالات الفلسطينية، فيما عمل أصغرهم أمير في بيع الملابس.

تعيد ماضي رسم الحدث كأنه حاضرا أمامها "كنا يومها في غاية السعادة فجلسنا منذ صباح اليوم ذاته واجتمع الأخوة وتناولنا طعام الغداء حتى سقط الصاروخ الإسرائيلي بدون سابق إنذار وكان مفاجئًا، لم أرَ أي شيء سوى أني أقذف في الهواء فكانت لحظة مرعبة جدًا ثم أفقنا على الفاجعة أن معظم أفراد عائلة زوجي قد استشهدوا ولم نجد أي أشلاء لطفلتي لانا التي كانت عروسة وفراشة العائلة".

يمر عيد الأضحى ثقيلاً على قلب ماضي وبناتها، فتلك الأيام حفرت ذكريات جميلة لا تنساها وباتت من الماضي "كنا في عيد الأضحى نتشارك في شراء الأضحية، وصباح يوم العيد يجتمع الصغار ويشاهدون ذبح الأضاحي، ثم يرتدون ملابس العيد، ونتزاور ويذهب الأبناء للمعايدة على والدتهم، وكوننا نعيش في منطقة زراعية بعيدة عن الكثافة السكانية كانت علاقتنا مترابطة لدرجة كبيرة".

عبر فيديو صغير كانت ترقد فيه على السرير الطبي بسيارة الإسعاف، ودعت ابنتها الجريحة لمى (12 عامًا) أقاربها على معبر رفح، وبعد ثلاثة أشهر من السفر والعلاج بدأت تستعيد عافيتها وتمشي، تشرح أمها حالتها "ابنتي الصغيرة واجهت جرحين، الأول فقد شقيقتها الصغرى لانا (9 سنوات) فكانتا مثل التوأم تنامان معا، وعانت من أثر فقدها لها، ثم معاناة إصابتها بكسر بالحوض وتعبنا كثيرا حتى استطاعت المشي بعد إجراء سلسلة من العمليات الجراحية".

بين مصابين يحاولون التعافي من أثر الإصابات التي حلت بهم، وناجون يحاولون التأقلم مع حياة جديدة خالية من ألوان الفرح ومن دفء العائلة يعيشون حياة يتم وهم في أوج طفولتهم وحاجتهم لآبائهم، تضاءلت العائلة وتقلص عدد أفرادها، غابت كل تلك الوجوه التي كانت حاضرة في كل فرح وبقيت ذكرى بين إطار صور، فرحل الأعمام وأولادهم والجدة، فأي فرح تنتظره رهف بلا هؤلاء الأقارب بعد توقف الحرب؟.

اخبار ذات صلة