قائمة الموقع

عندما تكون صحفياً في غزة.. من أين ستروي الحكاية؟!

2024-06-03T09:02:00+03:00

كثيراً ما تذهب نصوصي إلى المجهول، إذ أجد نفسي محاطة في غزة بروايات لا حصر لها، وكل منها يحتوي على مئة حكاية. فعلى هذه الأرض، كل إنسان هو قصة بحد ذاته، قصة لا يمكن الإحاطة بجميع جوانبها مهما حاولنا بالكلمات. وعندما أريد أن أكتب عن "الفقدان"، أجد نفسي أمام قصص لأناس فقدوا مئة فرد من عائلاتهم. أمام هول هذه الحكايات، يقف قلمي عاجزاً عن السرد، لكنه يجد صعوبة في تجاهل ما يرويه الناجي من تلك العائلة. هل يصح تسميته بالناجي؟ كيف له أن يكون ناجياً وهو من عاش الموت أكثر من مرة مع كل فقد؟ يسترجع ذكريات اللقاءات قبل الحرب، تلك اللقاءات التي تحولت بعد السابع من أكتوبر إلى مواجهات متكررة مع الموت.

في غزة كلنا مكبلون وغارقون في دمائنا نعيش نفس الحرب ومآسيها، إلا أننا لسنا شخصاً واحداً؛ فلكل منا لديه قصة تُسرد كرواية منفصلة. الحرب معقدة، والجميع ضحايا يحملون خسائرهم التي لا يمكن التقليل من أهميتها. حتى من حالفه الحظ ونجا بالسفر، يعيش حرباً نفسية معقدة في منفاه، بعد أن أصبح لاجئاً.

في الحرب التي عصفت بالأرواح والذكريات، التقيت بالحاجة أم عبد الله حماد، في أولى قصصي الصحفية في الحرب. تلك السيدة التي فقدت أحد عشر من أحبائها – أبنائها، زوجاتهم، وأحفادها -في مأساتين متتاليتين خلال شهرين فقط. فالقدر الأليم ابتدأ حينما دمر بيت جيرانهم بقصف مدمر، قتل زوجة ابنها وأحفادها، فتحول ذلك البيت الذي كان يفترض أن يحمل ذكريات الحب والضحكات إلى رماد يغطي ذكريات من الألم لا تُنسى.

وبينما كانت الجدة تحاول بما تملك من قوة لملمة جراح عائلتها التي مزقها الاحتلال بصواريخه، استقبلت فجيعة أخرى بوفاة ابنها وأخيه الآخر وزوجته وأحفادها في شهر واحد فقط بعد الحادثة الأولى. تلك المأساة المزدوجة طبقت في قلبها ألماً لا يوصف، هي وزوجها واثنان من أبنائها الآخرين الناجين.

أثناء قيامي بإعداد المحاور الرئيسية لحواري الصحفي معها، عقدت العزم على الاكتفاء بما ترويه الجدة دون الضغط على جراحها المفتوحة لاستخراج المزيد من التفاصيل المؤلمة. رغم ذلك، بدت حكايتها تنسج خيوطها بنفسها عندما وقعت عيني على منزلها المدمر، الواقع في قلب حي شهد دماراً شاملاً لكل المنازل المجاورة. كأنما الدمار نفسه يروي ما حل بالمكان.

عند دخولي المنزل، لاحظت محاولات العائلة لتماسك ولجعل هذا المكان صالحاً للحياة، رغم الصعوبات الجمة. فرأيت محاولات البسيطة في ما تبقى من البيت، كالزوايا المغطاة بالبلاستيك لصد البرد القارس في الشتاء، والسقف الذي لا يحمي من المطر. وكانت المفاجأة الأكبر أن هذا المنزل، رغم بساطته وضيقه، استقبل نازحين جدداً من الأقارب، إذ في بيوتنا، مهما كانت صغيرة، دوماً مكان يتسع لاحتضان من يحتاج الأمان، بعيداً عن وحشة الشوارع ورصاص الاحتلال.

اخترنا زاوية هادئة في المنزل المحطم للحديث مع الأم وسيدة أخرى وهي الجدة أم عبد الله، التي نجت من مأساة أخرى برفقة زوجها وطفليها الصغيرين. خلال الحوار معهما، أدركت أن النجاة من الغارة لم تكن سوى بداية معاناة جديدة؛ فهم الآن يعيشون في ظروف قاسية فوق ركام منزلهم المدمر. 

حيث يعانون من إصابات جسدية ونفسية معقدة؛ فالأم تحمل شظية في رأسها لم تُستخرج بعد، ولم تتلقّ العلاج اللازم. زوجها مصاب أيضاً، وطفلاهما لم يسلما؛ أحدهما يعاني من إصابة في الرأس والآخر من إصابة خلف الأذن بالإضافة إلى ضعف في شبكية العين ناجم عن الانفجارات. هذه العائلة تحمل آثار الحرب ليس فقط على أجسادها بل وفي كل جانب من جوانب حياتها.

من أين نبدأ الحكاية؟

بعد إتمام مقابلتي مع الحاجة أم عبد الله في منزلها المدمر، مر أسبوع كامل قبل أن أجمع الشجاعة للاستماع إلى التسجيلات التي أجريتها. عندما حان وقت تفريغها، وجدت نفسي حائرة، غير قادرة على تحديد نقطة البداية لصياغة القصة الصحفية. فمن أين أبدأ؟ وأي الأشياء أجدر بالحديث عنها؟ هل أتحدث عن الفقد العميق، أم عن المنزل الذي اختفى تحت الأنقاض، أم عن الخوف المستمر الذي يعيشه أفراد العائلة من تكرار مأساة الفقد، أم عن صوت "الزنانات"، طائرات الاستطلاع الإسرائيلية التي ترسل الرعب في أوصالهم مع كل غارة جوية يسمعونها، حيث ينتابهم شعور متناقض من الرعب والارتياح معاً لأنهم ما زالوا على قيد الحياة، على الأقل هذه المرة.

في مدينة غزة والشمال، يتفق الناجون والشهود على الموت على أنه لا وقت لديهم لأن يلتفتوا لحزنهم على أحبائهم الذين رحلوا؛ فالأنباء عن المجازر المستمرة التي تُرتكب بحق عائلاتهم تُعد صدمات تتراكم وتثقل كل لحظة من لحظات وجودهم، مما يجعل كل نفس يأخذونه محفوفاً بالمسؤولية عن حماية الناجين، البحث عن مأوى جديد، أو العناية بجريح آخر يصارع الموت.

زميلي علاء أبو نعمة من حي التفاح شرق مدينة غزة، يجسد قصة أخرى من هذه القصص المأساوية، إذ فقد أكثر من مئة شخص من عائلته في سلسلة من الحوادث المأساوية المتتالية. ودع بعضهم حينما سمح القدر بنظرة الوداع الأخيرة، بينما لم يستطع أن يؤدي حتى واجب الدفن لأخرين منهم. وصار علاء وحيداً،  يصارع الموت لتوفير الماء والطعام لأخواته الفتيات، يواجه يومياً تحديات هائلة تبدأ بجمع الحطب والوقوف في طوابير طويلة للحصول على الماء. وفي الأيام التي يحالفه الحظ ويحصل فيها على الماء، فإن الكمية لا تكفي إلا لنصف يوم. بينما تعمل أخته كطبيبة في أحد مستشفيات المحافظة الوسطى، ولم تتمكن من زيارة عائلتها منذ ثمانية أشهر. تظل في المستشفى، تعمل ليل نهار وفق خطة الطوارئ، تعكس التزاماً وتفانياً يشترك فيه الكثيرون مثلها من الأطباء والصحفيين وفرق الدفاع المدني الذين لا يجدون وقتاً حتى للتفكير في ما حل بهم أو بعائلاتهم. ربما علاء وحيداً في معاناته لكنه ليس الوحيد، فعلاء هو نموذج لكل أولئك الفلسطينيين الذين اختاروا البقاء في مدينة غزة والشمال.

في غزة تظل الأرواح كلها معذبة، حيث تصبح الحياة سلسلة لا تنتهي من الألم. كل يوم يمر هو تذكير بما فُقد، حيث يعيش الفلسطينيون بين أنقاض الذكريات والألم الذي لا يمحوه الزمن. فالناجون، مثقلون بالخسارة، يواجهون ليس فقط صعوبات النجاة اليومية بل وأيضاً العيش في ظل شبح الموت الدائم.

اخبار ذات صلة