23 أكتوبر عند الواحدة ليلًا، كسرت صواريخ طائرات الاحتلال الحربية حاجز الصمت والسكون في منزل عائلة أبو عيادة غرب رفح، وحولت معظم من فيه إلى أشلاء متطايرة دون سابق إنذار.
مهدي ومحمود هما ناجيان من هذه المجزرة الإسرائيلية، يعتليان بعد أشهر من وقوعها بقايا منزلهما الذي كان يتكون من مبنيين أحدهما دمر بالكامل والآخر جزئيا، لينتزعا أي ملمح للحياة يمكنهما من مواصلة العيش.
"لم يبق أحد من العائلة تقريبًا.."، يختصر مهدي (21 عامًا) الحكاية بهذه العبارة، إلا أن بعض الدموع التي برقت في عينيه هي أبلغ من الكلمات تعبيرًا عن ألمه.
كانت تلك ليلة مظلمة في حياة مهدي، ذي الملامح السمراء الهادئة إلا من الأنين، وهو أكبر إخوته، وقد بات مسؤولًا الآن عن ثلاثة أشقاء هم من تبقوا فقط من أسرته.
بالكاد يستطيع الشاب أن يتكئ على جدار متهاو، متحاملًا على وجعه وهو يقول لـ"فلسطين أون لاين": "انقصفت دارنا.. 17 استشهدوا من العائلة".
من بين الشهداء أمه وأبوه وثلاثة من إخوته وجدته وعمه وعمته وزوجة عمه وابن عمته وابن عم أبيه واثنين من أولاده.
تبكي كلمات مهدي وتنعى الشهداء بـ "لا حول منه ولا قوة".
تسترد أذنه نبرات صوت أمه الحانية، والكثير من الحكايا المخبأة بين تجاعيد وجهها التي عاشاها معا في "الحلوة والمرة"، ولا يجد عزاء بحجم هذا الفقد.
وينحني ظهره بمصيبة رحيل أبيه، سنده في الحياة الذي كان يميل عليه كلما واجهته الدنيا بمتاعبها.
يتحشرج صوته كأنما هبت في نفسه عاصفة من الحزن وهو يستعيد شريط الذكريات.
لم يدرك مهدي أنه عندما وقعت المجزرة المباغتة كان تحت الأنقاض، وأنه انتشل من بين الردم، إلا بعد ساعات من وصوله للمستشفى.
أصيب مهدي بتهتك في العظام، بات معه بحاجة إلى عملية جراحية، فضلا عن مشاكل في عصب الرأس.
لكن هذه ليست الحادثة الأولى في حياته، فقد أصابه الاحتلال أثناء مشاركته سابقا في مسيرة شعبية لكسر الحصار عن قطاع غزة، كما تعرض لحادث سير بينما كان يقود دراجة نارية.
أدى ذلك الحادث إلى إصابته بكسر في الكتف، ويفاقم ذلك حالته الصحية سوءا.
يصمت مهدي لوهلة قبل أن يوخزه وجع إخوته المتبقين على قيد الحياة وأحدهم "عمر" (ثمانية أعوام) الذي أدخل إلى العناية المركزة إثر كسر في الجمجمة وفقد للتوازن.
أما إبراهيم (10 أعوام) فقد احتاج إلى غرز في ساقه، بينما أنس (17 عاما) يعاني من كسر في إصبعه ويحتاج إلى عملية جراحية لا يتوفر المخدر "البنج" لإجرائها.
هم هكذا أطفال لاحقهم الاحتلال أسوة بغيرهم في القطاع الذي يتعرض لحرب إبادة جماعية أودت بحياة عشرات آلاف الغزيين معظمهم نساء وأطفال، وفق وزارة الصحة.
يلقي مهدي بنظراته على أكوام الحجارة وبعض الأثاث الذي رتبه فيما تبقى من المنزل، مسترجعًا ما كان عليه قبل القصف.
يعيش الشاب في هذا المكان غير الصالح للحياة مع ابن عمه محمود الذي ارتقى أيضًا أفراد من أسرته شهداء.
"نصنع هنا الحياة من الموت.. حياة صعبة جدًا"، هكذا يصف مهدي حاله.
وعن سبب اختياره للمخاطرة بالعيش في مبنى قد يتساقط في أي لحظة، يوضح أنه لم يلق راحة في أي مكان سواه، مستدركًا: "لم يبق شيء أخشى عليه، سوى إخوتي الثلاثة كونهم أمانة في رقبتي".
وما يزيد حاله قسوة، تكبد عناء توفير لقمة العيش كونه فقد القدرة على العمل في مجال الجزارة، بسبب وضعه الصحي.
وكان مجال عمله يرتكز على ذبح الدجاج والحبش، لكن مع ندرتهم في ظل العدوان، بات الجزارون يذبحون ما تيسر من العجول والخراف، وهو ما لا يقوى عليه.
تشرد
يرقب محمود المشهد من كثب، وينصت إلى قلب ابن عمه مهدي، قبل كلماته.
لكن مأساته ليست أقل قسوة.
على ما يشبه مقعدًا، جلس محمود مرسلا نظراته إلى السماء كأنما يخيل إليه قطعة من رأس شقيقته الشهيدة التي لم يتجاوز عمرها 12 عامًا وقد طارت يوم المجزرة إلى منزل الجيران.
أما أخوه ذو الـ13 عاما أخرج شهيدًا من تحت الأنقاض بعد أربعة أيام من القصف.
فقد محمود أيضًا بهذه الضربة خاله واثنين من أولاد خاله.
وتشردت بقية عائلته، فهو مع ابن عمه يعيش في بقايا المنزل، وأمه وأبوه في إحدى مدارس الإيواء.
ويكابد محمود عناء توفير قوت يومه عبر "فرش بضائع" متواضع أمام أطلال منزله.
ويتعهد الشابان بعدم مغادرة المكان إلا في حالة تعرضهما لخطر محدق، حتى في ظل تصعيد الاحتلال عدوانه على رفح، قائلين: "لم يعد هناك شيء نبكي عليه" بعد فقد أعزائهما.
وكأنما يجسد مهدي ومحمود كلمات خطها يوما الشاعر محمود درويش: "على هذه الأرض ما يستحق الحياة..".