بدأت نعمت شفيق مسيرتها المهنية في البنك الدولي، وبحسب سيرتها المنشورة على موقع جامعة كولومبيا التي أصبحت رئيسها العشرين، فإنّها وفي سنّ السادسة والثلاثين، قد صارت أصغر نائب رئيس للبنك الدولي على الإطلاق. ومن ضمن الوظائف التي تولتها في الإطار المالي والاقتصادي، وبحسب السيرة إيّاها، أمينة دائمة لوزارة التنمية المالية في المملكة المتحدة، ونائب المدير الإداري لصندوق النقد الدولي، ونائب محافظ بنك إنكلترا. وبحسب موقع صندوق النقد الدولي، فإنّ مسؤوليتها، أثناء عملها في الصندوق من العام 2011 وحتى العام 2014، اختصت بمنطقتي شرقيّ أوروبا والشرق الأوسط، وهو ما يشير إلى الطبيعة السياسية الخاصّة لموقعها في سياق سياسات الهيمنة الدولية على هذه المناطق تحديدا. وأمّا من خلال وظائفها في المملكة المتحدة، فقد أدارت عمليات التمويل للبلاد الفقيرة.
وعلى أيّة حال؛ يصعب حصر وظائفها وأدوارها المحلية والدولية، بالإضافة إلى المجموعات الاستشارية والمجالس التي ترأستها، لكن قد تجدر الإشارة إلى تعيينها في العام 2020 عضوا دائما في مجلس اللوردات في المملكة المتحدة، لتكون عضوا محايدا من الناحية السياسية بين أحزاب المحافظين والديمقراطيين الليبراليين والعمال.
في العام 2017 رجعت إلى الأوساط الأكاديمية رئيسة لكلية لندن للاقتصاد والعلوم السياسية، وحينما صارت رئيسا لجامعة كولومبيا في الأوّل من تموز/ يوليو 2023؛ وهي بذلك أوّل امرأة تقود كولومبيا، كانت في الثانية والستين من عمرها، وهو ما يعني أنّ حياتها المهنية كلّها ارتبطت بأدوار سياسية من خلال موقعها خبيرة في مؤسسات محلية في بريطانيا، أو دولية كالبنك الدولي وصندوق النقد الدولي.
صحيح أنّها مارست العمل الأكاديمي في الأثناء، كما في كلية وارتون للأعمال بجامعة بنسلفانيا وقسم الاقتصاد في جامعة جورج تاون، إلا أن الدور السياسي المقنّع بوصفها خبيرة اقتصادية ظلّ هو الطاغي طوال مسيرتها المهنية. فنعمت شفيق التي حصلت على البكالوريوس في الاقتصاد والسياسة من جامعة ماساتشوستس أمهيرست، والماجستير في الاقتصاد من كلية لند للاقتصاد؛ نالت الدكتوراه في الاقتصاد من كلية سانت أنتوني، جامعة أكسفورد.
امرأة هذه سيرتها المهنية، وتلك هي الأوساط الغارقة فيها، لا يوجد كبير معنى للحديث عن انسلاخها عن جذورها العربية، ليس فقط لأنّها خرجت من الإسكندرية وهي في الرابعة من عمرها بسبب سياسات التأميم التي انتهجها عبد الناصر، والتي طالت معظم أراضي عائلتها وممتلكاتها، مما جعل سفرهم إلى الولايات المتحدة هروب\ا من ذلك الواقع المصري في حينه، كما تقول هي في مقابلة مع مجلة الجامعة، ولكن لأنّها بالتأكيد لا تنتمي لقضايا هذه المنطقة إلا من من موقع المنفّذ لسياسات الهيمنة الغربية من خلال دورها في صندوق النقد الدولي، وإن كانت تستحضر طفولتها في مصر باستدعاء التفاوت الطبقي بين عائلتها الثرية والفقراء المصريين، للقول إنّ وعيها بدأ يتفتح على قضايا الفقر منذ ذلك الوقت المبكر، وإن كانت كذلك تتحدث عن دورها في بناء المدارس في إفريقيا، ومعالجة آثار الفيضانات في جنوب شرق آسيا، بالقدر نفسه الذي تتحدث فيه عن دورها في مساعدة دول شرقي أوروبا في إصلاح اقتصاداتها بعد انهيار الاتحاد السوفييتي، فالسياق كلّه واحد!
لكن لا ينبغي أن يغيب عن البال، والحالة هذه، أنّ مجالنا العربي الوسيع، حتى داخل فلسطين، فيه من هو منسلخ عن أي مسؤولية أخلاقية تجاه القضية الفلسطينية، والأمثلة على التبرّع المجاني في إظهار العداء الفج للقضية الفلسطينية أو مقاومتها من مثقفين وصحفيين ونشطاء عرب أشهر من أن تُستدعى، فكيف بالمواقف الرسمية لحكومات عربية؟ وكيف بحال الحركة الطلابية التي جرى تحطيمها في البلاد العربية؟ أو برؤساء جامعات في فلسطين جعلوا من شلّ الحركة الطلابية رأس أهدافهم؟!
بدأت السيرة الخاصة لنعمت شفيق، مع العدوان الإسرائيلي على غزة منذ السابع من تشرين الأوّل/ أكتوبر ، مباشرة مع الأحداث، فقد أصدرت في التاسع من الشهر نفسه بينا تقول فيه إنّ الهجوم على "إسرائيل" قد دمّرها، وتثني فيه على مظاهر الدعم والتعاطف والتضامن والرعاية التي أبداها الطلاب والزملاء للذين تأثروا بالنزاع، منوهة لأشكال الدعم التي تقدمها الجامعة على هذا الصعيد، مشيرة بنحو خاص إلى "مركز كرافت للحياة الطلابية اليهودية"، وهو المركز الذي بات مقصد المشرّعين الأمريكان للتضامن والادعاء بأنّ المظاهرات الطلابية الرافضة للحرب الإسرائيلية تنطبع بالعداء للسامية.
في الثاني عشر من الشهر نفسه، تغلق نعمت شفيق الحرم الجامعي بسبب ما قيل عن مظاهرات متنافسة بين المؤيدين لـ"إسرائيل" والمؤيدين للفلسطينيين، وفي الأوّل من تشرين الثاني/ نوفمبر تعلن عن فرقة عمل لمكافحة معاداة السامية، ومجموعة موارد لمساعدة الطلاب العرب والفلسطينيين الذين استهدفتهم حملة إعلامية كشفت فيه عن أسمائهم بعدما نشروا بيانا بعد عملية السابع من أكتوبر، لم يعلنوا فيه أسماءهم، حمّلوا فيه "إسرائيل" المسؤولية عن السياسات التي فجّرت العنف في غزة؛ كان من صور تلك الحملة، نشر معلوماتهم الشخصية على الإنترنت، وإعلان المسؤولين التنفيذيين في "وول ستريت" حظر توظيفهم، والدوران بشاحنات حول الجامعات تحمل لوحات رقمية تتضمن صور الطلاب وأسماءهم، مما يعني أنّ التحريض الفعلي والمبكر كان ضدّ الطلاب العرب والفلسطينيين، وبما يسعى إلى قمع رأيهم من اللحظة الأولى للحرب مباشرة.
وقد تجلت السياسات غير المتوازنة لنعمت شفيق بتجميد مجموعتين طلابيتين مؤيدتين للفلسطينيين في العاشر من تشرين الثاني/ نوفمبر، الأولى هي "طلاب من أجل العدالة في فلسطين"، والثانية "صوت يهودي من أجل السلام". وتجميد المجموعة الثانية، وهي مجموعة يهودية رافضة لسياسات الحكومة الإسرائيلية، يكشف عن التغطي الزائف بمكافحة العداء للسامية، لأجل مكافحة مناصرة الفلسطينيين. وأخيرا تستدعي نعمت شفيق، ولأوّل مرّة منذ عقود بحسب تعبير صحيفة "نيويورك تايمز"، الشرطة المحلية لقمع مظاهرة طلابية مؤيدة للفلسطينيين.
في جلسة استجواب لها أمام "لجنة التعليم والقوى العاملة" في الكونغرس، تحدثت شفيق عن إجراءاتها في "مكافحة العداء للسامية"، والتي كان منها إيقاف طلاب، وإلغاء التعاون مع أحد الأساتذة الزائرين، وأعلنت أنها لن تتسامح مع عبارات من قبيل "فلسطين حرة من النهر إلى البحر"، بخلاف رؤساء جامعات هارفارد وبنسلفانيا ومعهد ماساتشوستس للتكنولوجيا، الذين اتُّهِموا في جلسة استماع في كانون الثاني/ ديسمبر بأنهم فشلوا في التعامل مع شعارات كهذه بوصفها معادية للسامية!
لقد أبدت شفيق استعدادا أكبر لقمع المظاهرات المناصرة للفلسطينيين، وهو ما يكشف من جهة عن مخيالها السياسي، مهما تحدثت عن التنوع والتعاون، ومهما زعمت، في مفارقة طريفة، كما في لقاء لها مع مجلة الجامعة في بدايات استلامها منصبها، أنها تنتهج أسلوب نيلسون مانديلا في القيادة من الخلف، ومن جهة أخرى تكشف مسارعة شفيق الاستثنائية لقمع الطلاب عن المعنى في المكان الذي جاءت منه.
كانت شفيق واحدة من مهندسي سياسات الهيمنة الإمبراطورية على العالم، ولا يتجاوز مخيالها الليبرالي مصالح القوى المهيمنة، وهي ليست قوى غربية تتوسل نفوذها العالمي للهيمنة على الكوكب فحسب، ولكنها أيضا نخب اقتصادية فاسدة، تفسد المركز الإمبراطوري، الممثل في الولايات المتحدة، وإذا كان واضحا كيف يسيطر المال الفاسد على الإعلام الغربي، وكيف يمسك بأعناق أعضاء الكونغرس، وكيف تتحكم الشركات الكبرى بسياسات الإدارات الأمريكية المتعاقبة، وكيف أن المجمع الصناعي العسكري قد جعل أمريكا مدمنة على الحروب بخوضها مباشرة أو بافتعالها عبر الوكلاء والتحريش في العالم، فها هو يتضح كيف يعبث المليارديرات الفسدة بجامعات النخبة وبالحياة الأكاديمية، وكيف أنّ رئيسة الجامعة المصنفة رقم 12 على الولايات المتحدة، ليست أكثر من وسيط بين المال الفاسد والحياة الأكاديمية!
هذا هو عقل الإمبراطورية المتعفن بالمال السياسي، والمتحكم بها في كل اتجاه.