فلسطين أون لاين

بـ"مجزرة العيد" أستبدل أطفال عائلة "هنية" ملابس العيد بالكفن

تقرير "إرم طحين" .. وصل صوت "ملاك" فأنزلت الطائرة هدية دموية

...
بـ"مجزرة العيد" أستبدل أطفال عائلة "هنية" ملابس العيد بالكفن
غزة/ يحيى اليعقوبي:

كانت تنظر إلى الأعلى تنادي على طائرات مساعدات الإنزال  الجوي تصرخ ببراءة طفولية بصوت مرتفع "إرم طحين" بأنين جوع نخر معدتها في فيديو وثقته عائلتها وهي محمولة بين ذراعي أمها، يتطاير شعرها الذهبي في قلب السماء، كانت مثل صورة أخرى للشمس بعينين زرقاوين ترتديان لون السماء، "ملاك" الاسم والمسمى بعذوبة صوتها وصفاء ابتسامتها، حقًا ما أجملها من ملاك يمشي على الأرض.

لم تطلب الطفلة ذات أعوامها الثلاثة، سوى طعاما تحدثت به بلسان أبناء شعبها، فوصل صوت ملاك لتلك الطائرات التي لم تتأخر بإرسال هدية دموية للطفلة في أول أيام عيد الفطر، وضعت صاروخًا إسرائيليًا بدلا من "كيس الطحين" قضى على حلم طفولتها.

بجروح خطيرة نجت "ملاك" من مجزرة العيد فتشوه وجه الشمس، ملأت الجروح والحروق والكسور جسدها الصغير، اخترقته بكل قسوة وبلا رحمة، يلفها شاش أبيض على أسرّة المشفى، تركض بجسد نحيل أنهكه الجوع لم يقو على مقاومة الإصابات. سكت صوت الطفلة وتوقفت آخر نبضاتها ولحقت بكل عائلتها لتحلق بروحها في أعالي السماء وترتقي شهيدة.

فرحة تحولت لمأتم

صبيحة يوم العيد، ارتدت ملاك ابنة الأعوام الثلاثة، وابنة المخيم الطفلة التي ولدت بين حربين، أجمل ما لديها من ملابس، وجلست في حضن والدها محمد إسماعيل هنية داخل سيارة المعايدة، التي ضمت عمها أمير وأطفاله خالد (7 أعوام) ورزان (5 أعوام)، وعمها حازم وأطفاله آمال (10 أعوام) ومنى (9 أعوام).

حاول الأطفال انتزاع فرحة من براثن الحرب والموت، وارتدوا أجمل ما لديهم، وهم يرافقون آباءهم في جولة معايدة على العمات، لم تكن الجولة بعيدة عن حياة التشرد والنزوح التي انغمس هؤلاء الأطفال في تفاصيلها اليومية، فركبوا عربات تجرها حيوان، واصطفوا في طوابير أمام "تكيات الطعام" وناموا ببطون خاوية من الطعام واستيقظوا على ذلك، حوصروا مع آبائهم، وتشردوا هربا من الموت من شارع إلى آخر، وبين المدارس والمستشفيات.

أخذت "ملاك" التي ارتدت جناحي الفرح غفوة من طعم المعاناة، تركض في ممر المدرسة وتدور بملابسها العيد كفراشة تتنقل بين أزهار الربيع، يزينها تسريحة شعرٍ وأبهى طلة، بينما كان والدها يزور شقيقته النازحة في إحدى مدارس الإيواء بمخيم الشاطئ.

انتهت الزيارة بعناق بين الأشقاء، وغادروا بسيارتهم متجهين لزيارة أخرى، لم تكن تعرف الطفلة أن الطائرات التي تملأ سماء غزة تذخرت لإرسال هدية دموية في العيد، وبدلا من "كيس الطحين" أنزلت صاروخا قتل كل من كان في السيارة، فتحولت فرحة العيد إلى مأتم، وتغير مسار السيارة إلى ثلاجات الشهداء والموتى ومواراة الثرى.

"حاولنا أن نعيش فرحة العيد، لأنها شعيرة إسلامية يجب علينا القيام بها، رغم ما بنا من مآسي وجراح وألم، ولكن أبت الصواريخ إلا أن تقطع لنا الفرحة، كانت ملاك الابنة الوحيدة لوالديها وأصغر أحفاد جدها إسماعيل هنية قريبة منه وكان يحبها كما يحب أحفاده جميعا" كلمات يغلفها الحزن تتدفق من قلب "أم جمال" ابنة القائد هنية لـ "فلسطين أون لاين"، التي ودعت نجلها الشهيد الصحفي جمال (أكبر الأحفاد في العائلة).

عن آخر اللحظات قبل الاستهداف، تنقل عن شقيقتها قائلة: "كانت العائلة سعيدة ببعضهم لدرجة أن شقيقتي أخبرتني أن أشقائي ودعوها أول مرة ثم عادوا وعانقوها، وكانت فرحة لا توصف لوجودهم معًا بهذه اللحظة، أما "ملاك" فكانت تركض وتلعب في ممرات المدرسة".

لا تفسير أو سبب  للمجزرة بحق الأطفال وآبائهم، سوى أنه انتقام إسرائيلي من مواقف جدهم الصلبة بالتمترس على مطالبه شعبه والإصرار على عودة النازحين وانسحاب جيش الاحتلال من قطاع غزة، صمت العالم عليها كما صمت عن أكثر من 3 آلاف مجزرة أخرى غيرها.

يسألها والدها في مقطع مصور، "ايش جبتي؟" ترد الطفلة وهي تحمل آنية صغيرة مليئة بالعدس "عالطابور. من عمو" أي أنها اصطفت في طابور طويل كي تعود لعائلتها بطبق عدس، يمسح والدها على رأسها بابتسامة ترافق صوته "شطورة" تتغمس العائلة بذات المعاناة التي يعيشها الناس في غزة، من تشرد وجوع ونزوح ناموا بين ممرات المساجد والمستشفيات.

تعلق أم جمال على الفيديو المنتشر عن "ملاك" وهي تطلب من طائرات المساعدات إنزال "الطحين" قائلة: "سررنا بها أنها كبرت وأصبحت تتحدث وتنادي وتلعب، وكانت تلعب ونتبادل الضحكات لكن العدو المجرم طفأ هذه الفرحة.

في مشهدٍ آخر قبل العيد بيوم، يركب الطفلان خالد ورزان على عربة يجرها حيوان، يتنقلون بواسطة وسيلة النقل  الوحيدة في ظل انعدام الوقود بين بيوتٍ مدمرة داخل مخيمهم، يواجهون تحديات الحياة، تعتبرها أم "جمال" أنها "جزء من معاناة الشعب الفلسطيني، كون العائلة تعاني النزوح بين شمال القطاع وجنوبه، وتعيش التشرد والمطاردة من بيت إلى آخر ومن مدرسة إلى أخرى".

تطفو على حديثها تفاصيل معاناة أخرى "نصفنا الآخر نزح للجنوب، مررنا داخل حاجز جيش الاحتلال كحال الناس، ينتابنا الخوف، عشنا في خان يونس وخرجنا تحت القصف إلى رفح ثم نزحنا نحو دير البلح، اتهمنا بأننا نعيش في فنادق الدنيا ولكن الله أراد لنا تبرئة من فوق سبع سماوات وأراد لنا قصور الجنة مع النبيين والشهداء".

تصف خالد ورزان أمير هنية بأنهما "الحياة والنعومة والضحكة الجميلة في العائلة"، كانا يرافقان والدهما في كل مجالات حياته، يقتدي خالد بوالده خاصة بمرافقته بصلاة الفجر، وكان يحلم أن يحفظ القرآن مثله، عاشوا معاناة التجويع والتشريد.

 أما آمال ومنى حازم هنية، فآمال "هي الفهم والوعي والحياة متكلمة ومن يعرفها لا يعلم بعمرها الصغير من لباقتها وخطابتها وكلامهما انتشر لها فيديوهات تخاطب العالم عن معاناة شعبها كانت متمكن من اللغة، بينما امتازت منى بـ "الحياء والابتسامة الجميلة" كانتا صديقات والدهن في كل تحركاته.

معاناة بالمخيم

تلقى عبد السلام هنية الابن الأكبر في العائلة خبر ارتقاء 8 من أشقائه وأحفاده بذات رباطة الجأش والصبر الذي تحلى به والده القائد هنية عندما علم بالخبر، رغم ثقل الخبر بما يحمله من ألم وفقد وفراق، تفرقت به العائلة الممتدة وتناقصت أعدادها.

يقول هنية الابن لـ "فلسطين أون لاين"، إن "معظم عائلته ومنهم خمسة من أخوته ظلوا في غزة بين محافظات شمال وجنوب القطاع"، وقبل التشرد والنزوح، جرى قصف بيوت العائلة، فتفرق أخوتي وعائلتي بين المستشفيات والمدارس، وعاشوا رحلة عذاب كبيرة نجوا خلالها من الموت في أكثر من مرة".

كتب لشقيقه محمد الحياة مرتين خلال اجتياح الاحتلال لمخيم الشاطئ فانتقل لحي الشيخ رضوان، وفيه حوصر وخرج من بين الدبابات، وهي نفس الرحلة التي عاشها شقيقه أمير والذي تعرض للقصف هو وعائلته أثناء تواجده بالطابق الأول بأحد المنازل وقصف الاحتلال الطابق الثاني من المبنى ذاته.

وأضاف "أطفالنا عاشوا الجوع كحال أبناء غزة، بعد معركة القصف والاقتحامات والإبادة، وكانت تصل رسائل منهم أنهم لم يجدوا خبزة ليأكلوها كباقي أطفال غزة، وكانت هناك أشياء لا توصف".

بصوته المثقل بالحزن على رحيل أخوته، يتابع هنية  عن آخر اللحظات "شاءت الأقدار أن يجتمع أخوتي أمير وحازم ومحمد وكانوا يقدمون الإغاثة للناس بما نستطيع إيصاله من مساعدات، ورغم أنهم تفرقوا بسبب النزوح، شاءت الأقدار أن يجتمعوا بآخر شهر رمضان، ويلتئم شملهم بالعيد والخروج لزيارة شقيقتي بالعيد".

ارتدى الأطفال الكفن بدلاً من ملابس العيد، وحرموا من عيش لحظة فرح، كانوا ثمن انتقام الاحتلال في مجزرة قابلها العالم بجريمة صمت، وبتلك الدماء ضمدوا جرح الوطن.

 

 

 

 

 

 

المصدر / فلسطين أون لاين