مُلقاة على سرير المرض كـ "زهرة ذابلة" لا تستطيع تحريك أعضاء جسدها البريء من قسوة الوجع لا يخرج منها إلا صرخات الألم الذي ينخر بها يوماً بعد آخر، بفعل سوء التغذية التي جعلتها عُرضة لمزيد من الأمراض.
الطفلة جنى عياد لم تتجاوز من عمرها الستة أعوام، أنهكها قلّة الغذاء والماء والدواء وجعلها رهينة سرير المرض في قسم الأطفال بمستشفى كمال عدوان بمخيم جباليا شمالي قطاع غزة، نتيجة سياسة التجويع التي تمارسها إسرائيل ضد سكان شمال القطاع.
في الـ 28 من فبراير الماضي، بدأت "جنى" التي تقطن في حي الزيتون جنوبي مدينة غزة، حياتها مع مرض "سوء التغذية" وظهرت عليها أعراض "الهُزال والالتهابات وتنفخ أطرافها الأربعة"، حتى باتت لا تستطيع الحركة وقضاء حاجتها، حسبما تروي والدتها "نسمة عياد".
وتجلس "نسمة" بجانب طفلتها وهي توزع نظراتها المليئة بالحسرة والقهر لجسدها النحيل الذي أصبح كـ "هيكل عظمي"، وهي تقلب ذكرياتها مع طفلتها قبل المرض، فتقول: "كانت صحة جنى بخير ولا تعاني من أي أمراض ونشيطة قبل بداية الحرب على قطاع غزة".
وتحكي بصوتٍ يرافقه الألم "نقص الغذاء والحليب وغيرها، جعل جنى تعاني من الجفاف ونقص في الوزن وانخفاض معدل الدم، ومضاعفات أخرى مثل الالتهابات الجلدية وانتفاخ الأطراف".
ووفق تشخيص الأطباء، تعاني "جنى" من سوء التغذية التي أدت لهبوط في وظائف أعضائها الحيوية ونقص في الفيتامينات، وتقرر إعطائها حليب مخصص وأدوية لتحسين حالتها الصحية، تُضيف "نسمة".
وجاء مرض "جنى" ليُفاقم أوجاع العائلة التي باتت "بلا مأوى" بعدما هدمت قوات الاحتلال منزلها بالكامل، تزامناً مع مغادرة "والد جنى" للعلاج في جمهورية مصر العربية، وبذلك يكون اجتمع على العائلة المرض والفقر والنزوح.
وتطال سياسة التجويع نحو نصف مليون نسمة شمال قطاع غزة، وفق احصائيات رسمية لمنظمات أممية بسبب العراقيل المجحفة التي تضعها (إسرائيل) على دخول المساعدات إلى محافظتي غزة وشمال القطاع.
تقاسم الوجع
الطفل نعيم النجار (4 سنوات ونصف) يتقاسم الوجع مع "جنى" داخل الغرفة ذاتها، إذ يعاني هو الآخر من سوء التغذية بفعل الأسباب سابقة الذكر، وأصبحت الأمراض تنهش جسده الضعيف.
ويرقد "نعيم" منذ أسبوعين على سرير المرض، حيث ظهرت عليه علامات الورم في أطرافه الأربعة وانتفاخ في القلب كما وصف الأطباء حالته وفق ما تقول والدته "نجوى النجار".
وتحكي "نجوى"، أن وزن "نعيم" انخفض من 15 كيلو إلى 12 كيلو جرام، حتى الآن ولا يزال آخذ بالانخفاض، إذ تقول الوالدة المكلومة: "قبل الحرب كنت اجيب له الفواكه واللحوم والحليب وكل الأصناف، لكن الآن لا أستطيع ذلك الحصار وغلاء الأسعار".
وتتضاعف حالة "نعيم" الذي يقطن في مخيم جباليا شمالي القطاع، وفق "نجوى"، وأصبح يتناول الحليب عبر "أنبوب طبي" خارج من معدته بواسطة "حقنة كبيرة"، مستدركةً "حتى الحليب المطلوب بات غير متوفراً".
وتُرسل "نجوى" التي نزحت من بيتها إلى إحدى مدارس جباليا، صرخات الألم علّها تخترق آذان أصحاب القلوب الرحيمة: "أناشدكم بتوفير الأكل والغذاء والحليب لطفلي وجميع أطفال قطاع غزة".
أما الطفلة إيلين مليحة (3 سنوات ونصف) لها قصّة معاناة أخرى إذ أنها تعاني من "نقص في المناعة" منذ ولادتها، وزاد معاناتها سوء التغذية التي أدت إلى التهابات شديدة في جسدها.
وتضاعفت حالة "إيلين" الصحية للأسوأ حيث أصبح تعاني من تضخم في الغدد الليمفاوية من سوء التغذية، ما ألزمها فراش المستشفى طيلة تلك الفترة، حسب ما تروي والدتها المكلومة.
وما يزيد أوجاع والدتها أن "إيلين" أبصرت نور الحياة بعد 12 عاماً من زواجها وهي "وحيدة عائلتها"، منوهةً إلى أن الأدوية والمكملات الغذائية التي تحتاجها غير متوفرة في الصيدليات حالياً.
وتتخذ اسرائيل أطفال ونساء القطاع وقوداً لحربها الطاحنة منذ أكثر من 6 شهور، في ظل انخفاض الامدادات الغذائية إلى أكثر من النصف مقارنة لما جرى الاتفاق عليه بالدخول شمال القطاع خلال هذا العام.
وفاة 30 طفلاً
وأعلن المكتب الإعلامي الحكومي في قطاع غزة، أن 30 طفلاً استشهدوا نتيجة المجاعة في القطاع.
وحذر اخصائي الأطفال وحديثي الولادة في مستشفى كمال عدوان د. تامر التوم، من أن استمرار المجاعة يهدد بوفاة عشرات الأطفال في المستشفى، الذين لا يزالون يتلقون العلاج، منبّهاً إلى أن الحليب الخاص بالأطفال الخدّج أيضاً غير متوفر.
وبيّن التوم في حديث خاص، أن استمرار الحصار حرم الأطفال من الحليب والمكملات الغذائية مثل الفواكه والأجبان التي يحتاجونها لنموهم بصورة طبيعية، لافتاً إلى أن أبرز أعراض التي تصيب الأطفال هي "هُزال عام ونقص في الوزن وقِصر القامة ونزلات معوية والتهابات الصدر، منوهاً إلى أن سوء التغذية لدى الأمهات الحوامل ينعكس على الأطفال أيضاً.
وناشد التوم، كل الضمائر الحية في العالم بضرورة النظر بعين الرحمة لأطفال غزة وارسال الأدوية والأغذية والحليب لهم قبل فوات الأوان والإعلان عن وفاة العشرات منهم.
وأسفر العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة عن استشهاد أكثر من 33 ألفاً وإصابة 76 ألفاً آخرين- معظمهم أطفال ونساء- كما تسبب العدوان في تدمير هائل للبنية التحتية مخلفاً "كارثة إنسانية غير مسبوقة"، وفقاً لتقارير فلسطينية ودولية.
عرقلة المساعدات
وقال منسق الأمم المتحدة للشؤون الانسانية في الأراضي الفلسطينية "جيمي ماكغولدريك"، في 12 ابريل الجاري، إن وضع سكان غزة لا يزال صعباً للغاية مع عدم وجود تحسن حقيقي في عمليات إيصال المساعدات الانسانية المنقذة للحياة أو دعم الرعاية الصحية الحيوية، على الرغم من الالتزامات الحيوية التي أعلنتها اسرائيل لتعزيز عمليات الإغاثة.
فيما صرّح المتحدث باسم مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الانسانية (أوتشا) ينس ليركة في التاسع من ابريل الجاري، بأن عمليات توصيل المواد الغذائية التي تنسقها الأمم المتحدة هي أكثر عرضة للعرقلة أو منع الوصول من أي مهمة إنسانية أخرى، وأن القوافل الغذائية المتوقع توجهها إلى شمال غزة من المرجح أن يتم رفضها ثلاث مرات أكثر من القوافل الإنسانية الأخرى.
بدوره، أكد المرصد الأورومتوسطي لحقوق الإنسان، أن اسرائيل تواصل عرقلة إدخال الإمدادات الانسانية الأساسية إلى قطاع غزة، وتستهدف عمليات توزيعها وتمنع وصولها إلى محافظتي غزة والشمال، مما ينذر بتفاقم وتعميق حالة المجاعة المنتشرة في هاتين المحافظتين تحديداً.
وشدد المرصد في بيان صحفي، أن محدودية وصول المساعدات الإنسانية في جميع أنحاء غزة وخاصة في مناطق شمال القطاع، ومنع التسليم العاجل للسلع الغذائية المنقذة للحياة يفاقم على نحو سريع وخطير المستويات الكارثية لإنعدام الامن الغذائي التي يواجهها السكان الفلسطينيين، والذين يواجهون خطر الموت من الجوع.
وأوضح أن اسرائيل تواصل انتهاك التزاماتها الدولية بما في ذلك التزاماتها كسلطة قائمة بالاحتلال، وانتهاك قرارات محكمة العدل الدولية وبخاصة التدابير الجديدة التي أصدرتها في 28 مارس الماضي، والتي الزمتها باتخاذ الاجراءات الفعالة لضمان دخول المساعدات إلى قطاع غزة دون معوقات.
وعلى ضوء ما سبق، فإن المسؤولية الكبرى الآن تقع على عاتق المؤسسات الدولية والأممية بضرورة بذل جهودها بالضغط على اسرائيل ووقف حرب الإبادة الجماعية ووقف إطلاق النار الفوري والدائم، إضافة إلى القيام بدورها الاغاثي وعدم السماح لدولة الاحتلال باستمرار انتهاك القوانين الدولية والافلات من المحاسبة على جرائمه واستعمال "الجوع" سلاحاً آخر يفتك به سكان غزة.