في الأيام الأولى للعدوان على غزة غلبت العجرفة وغرور القوة على رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو وهو يقول: ما ستواجهه حماس سيكون صعبًا ورهيبًا، وسنغيّر الشرق الأوسط. وتحدث مرّة عن تمزيق حماس، وأخرى عن تصفيتها، واصفًا حركة المقاومة بأنها داعش، وكان في ذلك يستند إلى دعم غربي أميركي غير محدود يتبنى الأكاذيب الدعائية الإسرائيلية.
ما بين تلك التصريحات وبين ما قاله نتنياهو في السابع من شهر أبريل/ نيسان – عشية ذكرى مرور ستة أشهر على العدوان على غزة، والذي جاء فيه: إن تل أبيب مستعدة للتوصل إلى اتفاق بشأن إطلاق سراح المحتجزين من قطاع غزة، لكن إسرائيل ليست مستعدة للإذعان لمطالب حماس التي وصفها بـالمبالغ فيها – تتكشف الحقائق وتتبلور النتائج.
ستة أشهر من التدمير والقصف اللذين استهلكا مخزونات جيش الاحتلال من المقذوفات والمتفجرات عدة مرات، ومع كل الوسائل غير الأخلاقية واللاإنسانية وجرائم الإبادة التي استخدمتها دولة الاحتلال، ترتدّ تصريحات نتنياهو في بدايات العدوان على أعقابها خائبة خاسرة، فمن اجتثاث حماس وتمزيقها إلى عدم الإذعان لها ولمطالبها، تتجلّى صور الهزيمة والانكسار.
هُزمت إسرائيل في الحرب والعدوان على غزة، هزمت أخلاقيًا وسياسيًا ومعنويًا ونفسيًا وإستراتيجيًا. فلم تعد إسرائيل واحة الديمقراطية في الشرق الأوسط، كما كان الغرب يقدمها، بل أصبحت دولة مارقة تستخدم الأساليب غير الأخلاقية في قتل الأطفال، وتدمير البيوت، وتجويع المدنيين الأبرياء. وبعد أن كانت دولة الاحتلال مهيمنة على الضمير الشعبي ومستحوذة على الرأي العام في الغرب، غدا الوقوف معها وبجانبها أمرًا يكلف السياسيين الكثير، ويحطّ من صورتهم ومكانتهم أمام الرأي العام في بلدانهم. وأصبحت صيحات الاستهجان والتنديد من الشباب الغربي ضد السياسيين الداعمين للاحتلال تلاحقهم في تنقلاتهم ومؤتمراتهم الصحفية والانتخابية – كما في أميركا – وتطوّقهم وتؤرقهم.
أمست العلاقة مع دولة الاحتلال تشكّل عبئًا أخلاقيًا وسياسيًا، وأحيانًا انتخابيًا على أصحابها. فالرئيس الأميركي جو بايدن يواجه موقفًا انتخابيًا صعبًا وأيامًا عسيرة جراء وقوفه مع العدوان الإسرائيلي ودعمه لآلة القتل الإسرائيلية بالمال والعتاد والذخيرة والإسناد السياسي والدبلوماسي. وها هي نيكاراغوا تجرّ ألمانيا إلى محكمة العدل الدولية من خلال شكوى قدّمتها تتهمها فيها بتسهيل ارتكاب إبادة جماعية بحقّ الفلسطينيين في قطاع غزة من خلال الاستمرار بدعم تل أبيب بشتّى أنواع الأسلحة مع علمها باحتمال كبير باستخدام تلك الأسلحة لارتكاب إبادة جماعية خطيرة بحقّ سكان القطاع.
وإذا كان تأسيسُ الدولة العبرية قائمًا في جانب كبير منه على مرثية وبكائية محارق النازية، والموقف الغربي منها، فإنّ ما ارتكبته تل أبيب من جرائم موثقة وعلى مدار الشهور، وعلى الهواء مباشرة، وما سيتم توثيقه من بعدُ سيشكل البعد الأخلاقي الرئيس في تفكيك دولة الاحتلال على مستوى الرأي العام الغربي، ولعل من صوره ما شاهدناه وتابعناه من هتافات الشباب والنشطاء في الغرب، في المظاهرات والتجمعات، والتي تنادي بفلسطين الحرة من البحر إلى النهر.
الإقرار بهزيمة إسرائيل تكرّر حتى على لسان العديد من السياسيين والمفكّرين والكتّاب الإسرائيليين، ومنهم وزير العدل الإسرائيلي السابق حاييم رامون الذي قال، وفق صحيفة معاريف: إن الحرب التي تشنها حكومة بنيامين نتنياهو على قطاع غزة انتهت بهزيمة إستراتيجية لإسرائيل، وردًا على سؤال بشأن ما إذا كانت الحرب قد انتهت، قال رامون: لسوء الحظ، نعم، للأسف هناك انتصار تكتيكي، ولكن هناك أيضًا هزيمة إستراتيجية، فلم نحقق أيًا من الأهداف التي حدّدتها الحكومة.
غيرت غزة المشهد العالمي، ولكنّ المتربصين كثرٌ، وأهل المكر والخديعة يتسيّدون غالبية المسرح السياسي الدولي، وتقديري أن النظام الدولي المتعجرف لن يسمح بانتصار المقاومة ما استطاع إلى ذلك سبيلا
انهزم الاحتلال، فهل انتصرت المقاومة؟ نعم.. فلقد انتصرت المقاومة عسكريًا وأخلاقيًا وحتى سياسيًا على جيش الاحتلال. الانتصار العسكري وُثق جانب منه في فيديوهات مصورة، ولعل أهمها ما نُشر للكمين المركّب في خان يونس، وكان من سمات الانتصار الرئيسية أيضًا وحدة المقاومين والقدرة على التحكم والسيطرة، واختيار الأهداف رغم ضراوة القصف وعنفه. أخلاقيًا انتصرت المقاومة على الاحتلال في تعاملها الإنساني مع الأسرى الذين تم إطلاق سراحهم في عملية التبادل في نوفمبر/تشرين الثاني الماضي، وظهرت صور كثيرة للتعاطي الراقي من عناصرها مع الأسرى؛ إن كان من خلال طريقة توديع الأسرى لهم، أو في صور أخرى، منها صورة الفتاة الإسرائيلية التي خرجت ضمن صفقة التبادل، وهي تحمل كلبها بين يديها. فيما لم يتحدّث أي أسير ممن أُطلق سراحهم للإعلام عن معاملة سيئة أو تعامل فظّ لاقوه من آسريهم.
السؤال الأهم، وربما الأصعب: ماذا بعد؟ وإذا افترضنا أن الاحتلال رضخ للإمر الواقع وللضغوط المحلية والعالمية، ولوضعه العسكري شبه المنهار، ولحال اقتصاده المتدهور ووافق على صفقة تتضمن الانسحاب وتبادل الأسرى، وإعمار القطاع، وفكّ الحصار، وقدم بذلك تعهدات ومواثيق، فما هو التالي؟
بتقديري؛ لن يترك النظام الدولي المتعسف والمتعجرف، ولن يسمح بانتصار المقاومة في فلسطين ما استطاع إلى ذلك سبيلًا، ومن ورائه وبكل القدرات والمقدرات أنظمة عربية راسخة في الاستبداد ومتجذرة في الفساد. انتصار المقاومة وقيمها سيؤدي لزعزعة مفاهيم دولية أصبحت مع مرور السنوات وطغيان القوة من المسلَّمات، وسيقود لتغييرات كبيرة في المنطقة، ولو بعد حين. وإذا كانت قيادة المقاومة السياسية تصرّح بأن معركة المفاوضات أقسى من المعارك العسكرية على الأرض، فإن مرحلة ما بعد صمت البنادق قد تكون الأشد والأشرس.
يحتاج أي حل أو أية تسوية إلى ضمانات دولية وإقليمية متنوعة، ذلك لأن الضمانات الغربية وبطبيعة الحال تعهّدات الاحتلال يمكن النكوص عنها وتجاوزها، وما أسهل المبررات والفبركات، ولعلّ فزاعة داعش وأمثالها -وكما شاهدنا فيما جرى في موسكو- تحت التصرّف والطلب حيث يقتضي الأمر ذلك. مما لا شك فيه أن الدور التركي سياسيًا ولوجيستيًا مطلوب وبشدّة، غير أن تركيا الآن لم تعد كما كانت، أو كنا نتأمل ونأمل، تركيا مثقلة بهموم وأغلال اقتصادية تلقي بظلالها على مكانتها ودورها وهو ما شهدناه في الأشهر الماضية فيما يتعلق بمواقفها من محرقة غزة. لا بد من ضمانات دولية تُساهم فيها دول لها مصالح متناقضة، كدول غربية وروسيا والصين ودور رئيسي لدول ذات مواقف منصفة في الأزمة مثل أيرلندا والنرويج وجنوب أفريقيا ودول أميركا اللاتينية، وبوجود عسكري لها ولو رمزيًا.
غيرت غزة المشهد العالمي، ولكنّ المتربصين كثرٌ، وأهل المكر والخديعة هم الذين يتسيّدون غالبية المسرح السياسي الدولي، وإن كان مكرهم لتزول منه الجبال. انتصرت الثورات العربية وبشكل سلمي رائع في بعض الدول، وظنّ كثيرون أنّ المستقبل أصبحَ براقًا ومشرقًا، وأنهم سيستمتعون بحقوقهم الأساسية والسياسية كمواطنين، ولكن ما لبث المتربّصون، بدعم الدولة العميقة وتحريض الخارج إقليميًا ودوليًا، أن انقضّوا على ما كان يُظنّ أنه حلم تحقق ليصبح كابوسًا مؤلمًا، ولترتد الأمور إلى أسوأ مما كانت عليه.
تحتاج المقاومة إلى أن تشارك وتشاور قانونيين دوليين، وأن تستحضر البعد الشعبي العربي والإسلامي من خلال مشاركة علماء مسلمين ونقابيي هيئات دولية رسمية وشعبية في التسوية المرتقبة، فلم تعد غزة – وما جرى فيها – شأنًا فلسطينيًا ولا عربيًا وإسلاميًا فحسب، بل أصبحت مسألة عالمية اجتمعت عليها قلوب أصحاب الضمائر الحيّة، والقيم والأخلاق الإنسانية.
كما تحتاج المقاومة وسياسيوها إلى التفكير العميق ووضع جميع الاحتمالات شديدة السوء في حساباتهم، فكما رأينا في حرب الإبادة على غزة، نتعامل مع عالم متوحش موغل في الإجرام والنفاق يدعم كل أنواع الإرهاب الذي يقترفه الاحتلال؛ بزعم محاربة الإرهاب. وفيما يبكي ويتباكى على مزاعم إسرائيلية كاذبة فيما يتعلق بذبح الأطفال، ويعتبرها حقائق وبشكل سريع خاطف ومن دون تدقيق ولا تمحيص، ويتعامل ببرود ولامبالاة مع جرائم الاحتلال وانتهاكاته الصارخة التي يقترفها على الهواء مباشرة، كما في المستشفى الأهلي، ومجمع الشفاء، واغتيال عمال الإغاثة الأجانب ليطلب من الجاني وبأدب جمّ وعبارات مهذبة، التحقيق فيما اقترفت يداه.