تمتد أيام رمضان في غزة، لتروي قصة مآسٍ لا تنتهي. هذه الأرض، التي اعتادت أن تكون معمورة بالصلوات والأماني في شهر الرحمة والغفران، تغرق الآن في دماء أبنائها، بينما العالم يغلف أذنيه بالصمت المريب.
يشهد اليوم الخامس من رمضان صورة متجددة من الألم لا تختلف كثيراً عن سابقاتها، فما زال صدى القذائف يخترق صمت الليل، ومشهد القتال يتجدد دون وقفة أمل لإطلاق النار. غزة، تلك البقعة الصغيرة على خارطة العالم، تتحول الآن إلى مسرح للموت تحت ضوء النهار، حيث تسفك دماء الأبرياء الذين يتجمعون بحثاً عن لقمة العيش.
لقد شهد الأيام الماضية التي مرت من الشهر الكريم مذبحة أخرى، حيث سقط العديد من الفلسطينيين شهداء وآخرون جرحى، برصاص جنود الاحتلال الإسرائيلي، عندما يتجمعون عند دار الكويت، ذاك المكان الذي تحول إلى رمز لليأس، يحتضن أرواحاً جاءت تبحث عن كيس طحين.
هذا الحادث ليس الأول من نوعه، فالألم يتجدد مع كل شمس تشرق على غزة. فقبل يومين فقط، راح ضحية هذا العنف 7 آخرون في نفس المكان، وقبلهم بأيام ذُبح 118 فلسطينياً في مشهد يندى له الجبين، بينما ما زال العالم وباقي بلادنا العربية تشاهد أخبار ذبح الفلسطينيين على الهواء.
يسقط الفلسطينيون في غزة كل يوم، إذ لا يفرق القصف بين أطفال ونساء وشيوخ، يحاولون النجاة بحياتهم، بينما أصبح الموت جوعاً أقرب الأصدقاء.
فيما يتفرج العالم على هذه المأساة، يبدو أن الضمير العالمي قد خبا تحت وطأة الصمت والعجز. فالدول الكبرى، بما فيها الولايات المتحدة وأوروبا، تبدو عاجزة عن إيقاف نزيف الدم، أو حتى توفير الحد الأدنى من المساعدات الإنسانية.
تلك المحاولات الخجولة لإغاثة غزة، كإنشاء ميناء مؤقت أو إسقاط المساعدات جواً، لم ترق لمستوى الحرب، بل إنها في بعض الأحيان، كما في قرار بريطانيا بالتراجع عن إسقاط المساعدات، تُظهر مدى التخبط وعدم الجدية في التعاطي مع الحرب.
وأمام هذا العنف الممنهج، يبقى العالم مشدوهاً، غير قادر على النطق بكلمة "كفى"، متجاهلاً المجازر التي تدمر كل ما تبقى من قيم الإنسانية وحقوق الإنسان التي طالما تغنى بها.
إذ يتجلى تخاذل العالم وتواطؤه مع المأساة. فالدعم الذي تتلقاه إسرائيل من الحكومات الغربية، سواء عبر المساعدات العسكرية الضخمة أو الحماية الدبلوماسية التي تُوفرها لها على الساحات الدولية، يعكس صورة قاتمة للعدالة العالمية ويُشكل دليلاً على الانحياز الصارخ للمعايير الدولية.
فرغم كل هذه المجازر اليومية، لم تتحرك الدول الغربية بفرض عقوبات على إسرائيل، بل على العكس تركت بعض مواطنيها من حاملي جنسية الاحتلال للمشاركة في حرب الإبادة دون حتى مساءلة أو عقاب، ناهيك عن الدعم المادي والاقتصادي الذي يُعطي إسرائيل القدرة على توسيع عملياتها العسكرية، مما يُفاقم من الوضع الإنساني المتردي في غزة. بينما تُستخدم السياسة الدبلوماسية كأداة لمنع أي تحرك دولي قد يُدين أو يُطالب بوقف فوري لإطلاق النار، مانحةً بذلك شرعية ضمنية للعنف المتواصل، فنجد ألمانيا تنبري في الدفاع عن همجية إسرائيل، إذ ما فتئت الحكومة الألمانية أن رفضت تهمة ارتكاب "أعمال الإبادة" التي وجهتها جنوب أفريقيا لإسرائيل أمام محكمة العدل الدولية، بل وفي تدليس صريح تحذر من "الاستغلال السياسي" لهذه التهمة.
ولا يقف الأمر عند الدفاع عن الاحتلال الإسرائيلي وجرائمه بل امتد لـ شيطنة الفلسطنيين ومن يقف في صفهم، فنجد نائبة رئيس حزب الاتحاد الديمقراطيّ المسيحيّ، كارين بْرِين، تحاول تجريمَ هتاف "فلسطين حرّة" الذي كثيراً ما تصدح به حناجر مؤيدي فلسطين في المظاهرات، إذ صرّحت في لقاء تلفزيوني بأنّ هتاف "فلسطين حرة ليس هتافاً بريئاً، وإنما صيحة حرب لعصابة إرهابيّة"، بينما تقف الولايات المتحدة بمطرقة "الفيتو" في مجلس الأمن لأي دولة تسول لها نفسها وتقترح وقف لإطلاق النار.
إن هذا التواطؤ المستمر وعدم احترام القانون الدولي من قبل أغلب الحكومات الغربية، بل ودعم الاحتلال في شن عملية تجويع ممنهج على الشعب الفلسطيني في غزة، يعري مدى الفجوة بين الادعاءات الأخلاقية للغرب وواقع أفعاله. وكل ذلك، يعصف بكل ثوابت النظام الدولي ويدق المسمار الأخير في نعش النظام العالمي، فالأمر يقف عن فلسطين اليوم بل سيمتد للعالم.
في الوقت ذاته، تُسهم وسائل الإعلام الغربية بدورها في تكريس التواطؤ، من خلال التغطية المتحيزة التي تُعطي الأولوية للرواية الإسرائيلية وتُهمش معاناة الفلسطينيين الذي تذكر أنهم يقتلون لكن لا تشير إطلاقاً لمن قتلهم، في محاولة أورولية (نسبة لجورج أوريل) أن تضلل شعوبها وتشكل فهماً مغلوطاً عن الحرب والإنسانية و فطرة التضامن بشكل عام. هذه الرقابة الإعلامية والتحيز لا تُخفي فقط حقيقة الدمار والمعاناة في غزة، بل تُساهم أيضاً في زرع العداء والهمجية في الوعي العام.
إن الإبادة الجماعية التي تشهدها غزة اليوم ليست مجرد حدث عابر، بل هي صرخة تعيد تشكيل مفاهيم العالم وتقلبها رأساً على عقب، مؤكدة أن حقوق الإنسان، التي قُدمت كقيم عالمية، قد تحولت إلى مجرد شعارات فارغة تتلاشى عند أول اختبار حقيقي.
في غزة، حيث الحياة تنبض بين ركام الأمل المتهالك، يقضي الفلسطينيون الذي لم يستشهدوا شهر رمضان، شهر الرحمة والغفران، تحت ثقل الحزن وعبء الألم. في هذا الوقت المقدس، تتخلل أصوات الدعاء صرخات الأسى، وتتحول الأماني إلى طلبات استجداء للسلام ولحظة راحة. إنهم يعيشون، يوماً بعد يوم، في تحدٍّ صامت لعنف العالم، حاملين على أكتافهم وزر الحياة والبقاء، في أرض تسربلت بالدموع والدماء.