شكّلت غزة بطوفانها ومحرقتها انعطافة استراتيجية في القضية الفلسطينية بعد جولات تراكمية لإعادة الاعتبار لأصل العلاقة مع الاحتلال. باعتبار المقاومة قانون مواجهة المحتل. وتعتبر جملة النقاط المتحققة من الفعل النضالي التراكمي فتوجت هذه المحطات طوفان الأقصى الذي شكل ضربة استباقية حققت النتيجة الكلية لتصحيح المسار واعادة الاعتبار للقضية الفلسطينية وأسقطت الأوهام.
القضية مرت بمنعطفات حادة منذ النكبة وحتى اليوم وهي في مسار متعرج، وكانت محطة أوسلو انتكاسه حاده أربكت شكل علاقة الفلسطيني بالاحتلال، حيث بدأ العالم يشاهد فلسطيني يقف بجانب إسرائيلي يرتدي زي جيش الاحتلال يواجه عدواً أخر، وأحدث هذا ارتباكاً حاداً في الصورة الذهنية في العالم ونشأ في ظلالها أجيال جديدة تشوشت عندها الصورة حتى اختلط في اذهانها من الذي يحتل أرض الأخر؟
مكثت ثلاثين سنة بعد أوسلو تحاول القضية الفلسطينية التعافي من هذه الانتكاسة المريعة التي شوهت شكل العلاقة مع المحتل حتى نسي العالم القضية وضرورة حلها وإعادة الحق ولو بشكل نسبي لشعب مظلوم أخرج من أرضه وترك حتى القرن ال21 أخر شعب محتل في العالم. بل وتنكر جزء من العالم العربي للقضية وفتح مساراً للتطبيع مع المحتل وإقامة علاقات وصفت مع قلة منها بالدافئة، دون حلاً للقضية او حتى دون نظر لحقوق الشعب الفلسطيني التي يدوسها قطار التشويه الذي ارتكبته موبقات أوسلو ثم اتمت دهسه عجلات التطبيع الآسن.
ومن هنا كان السابع من أكتوبر المجيد لحظة زمنية فارقة بشأن إعادة الاعتبار للصورة الذهنية عن شكل العلاقة في فلسطين المحتلة. وعن أوسلو كخطيئة مطلوب التكفير عن ذنبها بالرجم حتى الموت وعن التطبيع بنبذ أصحابه الى درجة شعورهم بالتهمة والتقصير فضلاً عن خلخلة الثقة في أذهانهم الضيقة بوزن (إسرائيل) الحقيقي في المنطقة والذي أوهمتهم أمريكا أنها حبل نجاة لهم وأن التطبيع ممر اجباري باعتبار إسرائيل الثقل الذي يمكن الاتكاء عليه. فسقط بذلك وهم أن القضية الفلسطينية وحق شعبها في أرضه قد فقد زخمه، ووهم أنه ممكن تجاوزها، ووهم التطبيع انه مساراً بديل عن حق الشعب الفلسطيني في أرضه ودولته.
حماس مردوعة وغزة تبحث عن مزيد من تصاريح العمل لأبنائها ومبلغ مالي إضافي يردها من قطر لتزيد عدد كابونات المساعدة التي تقدمها للأسر المتعففة وأن غزة أرهقها التصعيد المتكرر وجولات مسيرات العودة وعداد شهداءها وجرحاها المتزايد وأن إرادة الفلسطيني قد وهنت هذا وهم أخر انهار مع الطوفان، وواصل انهياره مع المحرقة التي قدم فيها الفلسطيني نموذجاً اسطورياً للصبر والادارة والثبات الملحمي وهو يواجه كل أصناف الإبادة الجماعية. ونموذجا للقتال حفاه وبأبسط الأدوات المصنعة محلياً، ليغدوا ظريف الطول الفلسطيني يراه العالم كل يوم عبر اشكال متعددة للقتال من نقطة صفر. والنتيجة التي وصل لها العالم بعد كل جولات الصراع والتطبيع والمساومات ان الرهان على كسر إرادة الفلسطيني وهم كبير وأن عليهم جميعاً في كل أطراف العلاقة البحث عن مقاربة أخرى لحل القضية الفلسطينية ليس من ضمنها أن الفلسطيني قد أرهقته القضية وتعب من طول المسير وأنه استنزف من جراء فداحة الثمن الذي دفعة. بل أنه تفوق ككل مرة على قيادته وكان الشعب الفلسطيني في غزة خصوصاً في الخندق الامامي وشريك كامل في تشكيل الحاضنة التي ترعى النصر وتصنع المستقبل وانه يعيد تشكيل ذاته منسجماً مع مساره وقدره مرابطاً على ساحل الشام.
وهذه الإرادة التي لم تكسرها المذابح الرهيبة ولم تسحقها المحرقة الفاشية تترجمها فضلاً عن صورة الفلسطيني الذي يخرج من تحت الأنقاض جريحاً مضحياً بعائلته وبيته وهو يرفع شارة النصر هاتفاً بعبارات الإرادة والثبات والتحدي والانتماء لفلسطين ولمسارها المقاوم. وانما ايضاً استطلاعات الرأي المتعددة ومنها الامريكية التي جعلت من حماس في أعلى النسب منذ تأسيسها حضوراً، والترجمة لهذه النتيجة أن المقاومة وإرادة الثبات وهزيمة المحتل هي خيار الشعب الفلسطيني في كل مكان في استفتاء قاطعا لكل وهم وهازماً لكل وهن مهما كانت التضحيات.
المخيال الذهني العالمي لم يكن يعرف تماماً ما يجري في فلسطين وفي غزة على وجه الخصوص، وكانت معركة الرواية على أشدها مع ضعف حضور للرواية الفلسطينية وثقل حضور رواية المغتصب في ظل سيطرة الصهيونية على الإعلام، وحتى مع ثورة السوشال ميديا كانت الرواية الفلسطينية في ظل محاربة المحتوى غير قادرة على النهوض والانتصار في معركة السردية.
الوهم الذي هزمه الطوفان الرواية الصهيونية حيث عبر محرقة البث المباشر استعاد الفلسطيني أصل الرواية كشعب تحت الاحتلال يرفض الهزيمة ويقاتل بالأظافر والاسنان وبلحمه الحي ودمه النازف في كل الطرقات وعبر كل المستويات في بطولة فائقة مذهلة. كل ذلك أعاد الاعتبار لأصل الرواية وحطم وهم الرواية الصهيونية فغدت معركة الرأي العام العالمي أهم إنجاز وهذا في كل أطراف الكرة الأرضية وبكل لغات العالم وعليك أن ترقب الملايين المنطلقة في ساحات مدن العالم قاطبة تزينهم كوفية فلسطينية ويرفرف فوقهم علمها، لتعلم عظيم ما قدمت غزة للقضية بإعادة تشكيل الرأي العام العالمي، بل والامريكي حيث جموع الشعب الأمريكي الهجين من كل قارات العالم بكل معتقداته وطوائفه وألوانه وأعراقه وخاصة الشباب وهم يعاد صهرهم وتشكيلهم على وقائع ملحمة غزة الطوفان والمحرقة.
وفي المقابل سقوط دولة عصابات الهاجاناة والشتيرن أمام الرأي العام العالمي لتعود في غزة إلى سيرتها الأولى عصابات لقيطة مرتزقة معتدية ومجرمي حرب ومرتكبي مجازر وإبادة جماعية حيث سقطت هذه العصابات المسماة دولة (إسرائيل) التي روجت طويلا إنها واحة الديمقراطية وحقوق الانسان فإذا هي عصابات مارقة وساقطة اخلاقياً وانسانياً وقانونياً, ورغم كل محاولات التدثر بورقة التوت الأمريكية إلا أن حالة العري الأخلاقي والقيمي أكبر من الستر الذي سقطت فيه أمريكا ذاتها وعلى رأسها بايدن وقد يدفع الثمن وحزبه في انتخابات العام الجاري لتغدو متهمة انسانياً ومعزولة دولياً وتحتاج من ينقذها من عار (إسرائيل) الذي دنسها.
ووفق مشهد الوهم المتبدد عن واحة الديمقراطية المزعومة الى دولة مارقة فإن محاكمتها أقرب من حبل الوريد، وها هي جنوب افريقيا من أٌقصى الأرض ترفع الدعوى الأولى متجرأة على النظام الأمريكي الظالم وأمام محكمة العدل الدولية. وبالتأكيد ستغدو محاكمة عصابات مجرمي الإبادة الجماعية مشهداً مألوفاً على المستوي الفردي والجماعي. أو سيسقط النظام الدولي برمته بصفته راعي عصابات إبادة جماعية مارقة، ولعل سقوط منظمة المجتمع الدولي بظلمه الذي يرعاه الفيتو الأمريكي والتي تحصنت فيه عصابات الإجرام على مدار عقود سيكون ضحية أخرى بعد أن تلوث بدماء أبناء غزة الطاهرة وأطفالها ونسائها الابرياء.
وكم بدا اسقاط منظومة الظلم مستحيلاً ليغدوا أيضاً وهماً إضافياً أخر بعد أن روج لعقود أنه راعي للإنسانية وحقوقها وأنه نصير للعدالة فإذا به بيت خرب للوهن الذي أيضاً بددته غزة بعد أن كشفت سوأته الرديئة بعد أن أسقطت دماء أطفالها منسأته التي اتكأ عليه عقودا من الزمن، ولعل أمريكا الأكثر افتضاحاً بسقوط هذه المنسأة، تقف أمام مصيرها وتبدو أكثر من سيدفع الثمن رغم الوهم السائد أنها القوة العظمي ووحيدة القرن وأحادية القطب، سيكون عليها أن تكون وهماً اضافياً يتبدد لتنزوي وتتراجع بعيداً الى حيث حدودها لتكون دولة عادية عليها أن تهتم بشؤون نفسها فقط وهذا سيكون أدعى لإعادة بناء منظومة دولية جديدة أكثر عدالة وإنسانية وأخلاق.
وهذه نتيجة عادلة لما أوثقت يدا أمريكا ونفخ فاها في نار محرقة غزة وأهلها الأبرياء والتي كشفت للعالم كم هي المنظومة الدولية التي ترعاها أمريكا متحيزة وظالمة وغير قادرة على حماية الإنسانية والابرياء والأطفال، وأن الأمم المتحدة لا تملك من أمرها شيئاً طالما قيدتها أمريكا وجعلتها جسم كبير واهن مرهق للبشرية وغير قادر على حماية منظومة القيم والقوانين والأخلاق التي روجت لها طويلاً.
تبدد أيضاً وهم كبير أن إسرائيل قادرة وجيشها اسطوري في الترتيب ال18 عالمياً والرابع في المنطقة وانه بارجة أمريكية متقدمة وشرطي البيت الأبيض القادر على الردع والتأديب لكل خارج عن المشيئة الامريكية الصهيونية. فإذا هو بيت عنكبوت واهن ومتهاوي وفي السابع من أكتوبر وما تبعه من أيام طويلة لم يستطع استعادة الردع المفقود والصورة الذهنية التي روجها لعقود. وهذا ينعكس أيضا ًعلى أمريكا التي تهشم أيضاً ردعها سالفاً في أفغانستان والعراق والصومال وقبل ذلك فيتنام، وها هو يسقط في غزة مجدداً مع سقوط الجيش الذي لا يقهر.
وعلى مدار الساعة تبحث عصابات الشتيرن والهاجناة أسفل كل بيت دمرته وعظام سحقتها وطفلاً مزقته عن صورة نصر واهم علها تستعيد الثقة لذاتها وجيشها المتهاوي فلا تجد فتغرق وتغرق في وحل غزة وأمام ضربات داوودها يتهشم ما بقي من هيبتها لتسحق للأبد صورة (إسرائيل) القادرة لتغدو عياناً ليست أكثر من وهم كبير يتبدد في أزقة وشوارع وبيوت غزة المدمرة ويغرقها طوفانها.
ورغم كل خطابات التثبيت ومدد لا ينقطع وتصريحات رنانة بأنها معركة الاستقلال الثانية وحرب الإنقاذ ولا مستقبل لنا إذا هزمنا اليوم، إلا أن (إسرائيل) على طريق الزوال كما قال جالنت. وأنها برمتها وسقوط دور كيانها الوظيفي المؤقت سيكون بعد زمن قصير فاتورة الطوفان، وأنها منذ السابع من أكتوبر بدأت حرب التحرير الفلسطينية لمحو آثار النكبة وازالة عصابات الإبادة الجماعية التي أرهقت الإنسانية وشكلت عبئاً على البشرية، وستحيا ما بقي لها من سنوات قليلة أمام سقوط وهم روجته انها دولة موحدة فإذا هي عصابات متشظية " تحسبهم جميعاً وقلوبهم شتى " وأنها على أبواب الحرب الأهلية التي ستأكل ما بقي من وهمها الذي بددته غزة بطوفانها ومحرقتها. "والله غالب على أمره".