أصدرت محكمةُ العدل الدولية يوم الجمعة 26 يناير/ كانون الثاني 2024 قرارها بخصوص الدعوى التي رفعتها دولة جنوب أفريقيا ضد إسرائيل بخصوص ارتكابها إبادة جماعية في غزة، والدعوةِ إلى وقف فوري لإطلاق النار.
وقد جاء ذلك بعد ما يقرب من إتمام أربعة أشهر من العدوان المستمر على الشعب الفلسطيني في غزة. أدت الحرب بسبب فظاعاتها في حق الفلسطينيين إلى حدود اللحظة، إلى ارتقاء ما يقارب الثلاثين ألف شهيد وأكثر من سبعة وستين ألف جريح، مع تدمير كامل لشروط ومقوّمات الحياة ومنع الدواء والغذاء عن أهل القطاع.
هذه الحرب المستمرة بغطاء رسمي من عدد من الدول الكبرى، واكبتها احتجاجات مستمرة في معظم مدن وعواصم العالم، ونخصّ بذلك الاحتجاجات التي شملت المدن الكبرى في أوروبا وأميركا، مما يكشف عن مفارقة بين غرب رسمي مساند في أغلبه ومتحيز لإسرائيل بشكل مطلق، وبين قوى وفاعلين ومجتمع مدني ورأي عام مساند لتحرر الشعب الفلسطيني ومناهض لجرائم الاحتلال، وبين فاعلين ورأي عام مساند للحق الفلسطيني، ومنتظم دولي يوفر الغطاء السياسي لإسرائيل في عدوانها على غزة، وفي كل ما ارتكبته بحق الفلسطينيين على مدى عقود، على الرغم من الاستيقاظ المفاجئ لمحكمة العدل الدولية تحت الضغط، والتي قد تفتح الأفق نحو سلطة القانون والعدالة الدولية وعدم الإفلات من العقاب.
من خلال هذه المفارقات كيف يمكننا أن نفهم التناقضات الثاوية داخل الغرب نفسه، أو ما يمكن تسميته بغرب ضد الغرب؟ وأي تأثير يمكن أن يسفر عن ذلك على القضية الفلسطينية ومسارها كقضية تحرر؟
1- قرار محكمة العدل.. وأثره في تغيير السرديات السائدة
أمرت محكمة العدل الدولية باتخاذ جميع الإجراءات والتدابير التي من شأنها منع الإبادة الجماعية في غزة، وما يمكن أن يؤدي إليها، كما دعت المحكمة إسرائيل إلى الالتزام بتجنب كل ما يتعلق بالقتل والاعتداء والتهجير، وضمان توفير الاحتياجات الإنسانية اللازمة بشكل فوري.
ويظهر من القرار الصادر أن المحكمة لم تستجب للمطالبة بوقف فوري للعدوان على غزة، لكنها في الآن ذاته طالبت إسرائيل برفع تقرير في غضون شهر، لتأكيد الالتزام بالتدابير المعلنة، وهي التدابير التي يستحيل على إسرائيل القيام بها دون وقف لإطلاق النار، والسماح للمساعدات الإنسانية بالدخول إلى غزّة لتخفيف الوضع الكارثي الذي خلّفته الحرب.
إن ما صدر من محكمة العدل الدولية، وإن كان يستبطن ازدواجية في المعاملة، مقارنة بما صدر عن المحكمة نفسها بخصوص الحرب الروسية الأوكرانية، والذي طالب حينها بوقف فوري لإطلاق النار، فإنه يستبطن أهمية كبرى من منحيَين اثنين:
المنحى الأول: فيما له علاقة بحقوق الشعب الفلسطيني والحيلولة دون تحقيق الأهداف المعلنة، ونخصّ بذلك الإرادة المعلنة بتهجير الفلسطينيين من القطاع، مما قد يمثل نكبة جديدة في تاريخ الشعب الفلسطيني.
لذلك فإنّ الحراك القانوني على الرغم من ضعف فاعليّته ونجاعته العملية – نظرًا لحاجته إلى قرار ملزم صادر عن مجلس الأمن – يكسب فلسطين في الوجدان العالمي والرأي العام برمته زخمًا جديدًا، ويحدث تغييرًا جذريًا في التدافع على مستوى السرديات المتداولة والمنظور السائد بشأن الصراع على أرض فلسطين، ذلك أن تدخل محكمة العدل الدولية، ينبّه الرأي العام – ويسنده في مسار التعاطف المتنامي والمتصاعد – إلى حقيقة معاناة الشعب الفلسطيني مع الاحتلال، وأحقيته في الحرية وتقرير المصير.
إن تسليط الضوء، على معاناة الشعب الفلسطينيّ من مؤسّسة دولية، بقدر ما يحمل تأثيرًا فعّالًا في تفكيك وتجلية جوانب الزيف والتضليل، في الرواية السائدة التي عمل الإعلام الدولي على الترويج لها وتوجيه الرأي العام من خلالها، فإنه يضع في الآن ذاته، الساسة وصنّاع القرار في الدول والمؤسسات الدولية، أمام مواجهة الجمهور في السياق الغربي.
وقد ظهر ذلك في التأثير الواضح على صورة الزعماء الغربيين أمام شعوبهم، بفعل انقلاب الرواية لصالح القضية الفلسطينية، ووقوع خيارات عدد من الدول في الانزياح لإسرائيل في أزمة أمام عملية القتل والخراب التي لا يمكن تبريرها بأي داعٍ للشعوب الغربية.
ولعل الزج بوكالة غوث اللاجئين في غزة "الأونروا"، يأتي في سياق الضغط والبروباغندا الإعلامية والسياسية؛ للتغطية على ما تم عرضه بمحكمة العدل الدولية، من أجل تحقيق مكاسب مضادة، ثم لخدش صورة الشعب الفلسطيني، والتي أخذت زخمًا وانتشارًا في أوساط واسعة.
لكن ما صدر بخصوص وكالة غوث اللاجئين من عدد من الدول، يجلي في حقيقة الأمر أن ما يُتحدَّث عنه، من ضرورة إدخال المساعدات الإنسانية، من طرف ساسة الدول الكبرى، لا يخرج عن دائرة الكذب السياسي والإعلامي، ومحاولة تقمّص النزعة الإنسانية المخادعة أمام الجمهور السياسي الداخلي، إذ الحقيقة كامنة في الدعم اللامشروط للعدوان على غزة بالسلاح، وقلب الحقائق في الإعلام، والتضييق على الرأي العام المساند لفلسطين.
المنحى الثاني: خدش الصورة السائدة عن إسرائيل في المنتظم الدولي والرأي العام الغربي، ذلك أن المتخيل الغربي يحتفظ لإسرائيل، بأنها الدولة الديمقراطية الوحيدة في شرق أوسط مشبع بالكراهية والعنف والتخلف.
كما أن إمكانية محاكمة قادة الحرب عن الإبادة الجماعية، تنزع رداء الحمل الوديع والمطارد عن إسرائيل، إذ يتابع الرأي العام تدميرًا ممنهجًا للحياة في غزة، وتعطشًا غير محدود للدم وإحلال الخراب بالإنسان والعمران، في صراع غير متكافئ بين قوة احتلال مسنودة سياسيًا وعسكريًا من طرف الدول الكبرى، وإرادة تحرر لدى مليوني فلسطيني في القطاع، يعانون القتل والتجويع منذ قرابة القرن، والحصار الشامل للقطاع من 17 سنة.
وفي هذا الصدد، تلزم القوانين الدولية، الاحتلال بالاحترام التام للمواثيق التي تنظم العلاقة مع الشعب الفلسطيني باعتباره ضحيّة احتلال.
ذلك يبرز صورة إسرائيل كقوة احتلال تلجأ إلى كل أساليب القتل والتدمير بخطاب يميني متطرف يستمدّ مقولاته من النبوءات الدينية التوراتية، ينزع عن أهل القطاع صبغة الإنسانية والآدمية، مقابل الفلسطينيين كشعب مضطهد متطلع إلى الحرية والعدالة والإنصاف.
بل يعيد للأذهان ذاكرة الآلام المعمرة منذ بداية القرن العشرين إلى قرار التقسيم، ثم لاحقًا مع المجازر المرتكبة، ما يؤدي إلى تشكيل سردية جديدة تنزع الصورة التي صنعت لإسرائيل في المخيال الغربي، وواقع الصورة المحزنة للشعب الفلسطيني، والتي تستوجب من الرأي العام التعاطف، ومن الدول والمنتظم الدولي إقرار العدالة وتحمّل المسؤولية عن قتل ما يتجاوز ثلاثين ألف إنسان في مجزرة مروعة، تذكر بفظاعات نادرة حدثت في التاريخ، لكن الجديد، أن الإبادة المرتكبة والمجازر المروعة والتجويع، تتم في ظل تخمة من الحديث عن الحريات وحقوق الإنسان والحيوان.
2- ضرورة استمرار الفعل المناصر للحق الفلسطيني
نكتب هذه المقالة، ومعالم مبادرة لوقف إطلاق النار، وتفاوض مستمر برعاية وسطاء، لوقف العدوان في طريقها إلى التبلور، هذا الوقف للعدوان الذي نرجوه أن يتحقق عاجلًا غير آجل، ينبغي ألا ينسى معالجة الأزمة الإنسانية التي بلغت مدى كارثيًا، ومن ثم فإن الإجراءات المعلنة سابقًا من طرف محكمة العدل الدولية، بقدر ما تفتح باب المساءلة لقادة الاحتلال؛ وهي سابقة في تاريخ الاحتلال الذي يعتبر نفسه فوق المساءلة وخارج الملاحقة القانونية، فإنها تبرز كذلك موقف الضعف الذي أصبحت عليه إسرائيل أمام العالم، وأمام داعميها أساسًا.
ذلك أنَّ الانحياز المطلق لإسرائيل بدأ يتراجع؛ بسبب حجم الفظاعات التي ترتكبها بشكل يومي، والتي جعلت الرأي العام الغربي يشكل حلقة ضغط على الموقف الرسمي للعديد من الدول الغربية في مسألة المساندة والتحيُّز.
على الرغم من ذلك، فإنَّه لا يمكن للموقف المساند للقضية الفلسطينية أمام آلة القتل، أن يُثمر بشكل عملي دون استمرار الحراك في جوانب متعدّدة، هي كالآتي:
في المنحى المجتمعي والشعبي: وهذا له أهمية بالغة وأثر كبير في الدول الغربية، فالتحول الذي حصل داخل المجتمعات الأوروبية بشأن القضية الفلسطينية خلال العدوان الأخير، لا تقف حدوده على كشف أوجه الحيف والظلم الذي طال الشعب الفلسطيني لعقود من الزمن، والسعي لتحقيق العدالة التي ما فتِئوا يطالبون بها دون أن يجدوا آذانًا صاغية، في ظل نظام دولي تحكمه نزعة استعمارية ومنطق قائم على القوة العارية من الأخلاق، وإنما أضحى رفضًا يتجه إلى التناقضات الثاوية في الخيارات الكبرى لهذه الدول.
فبينما يكافح الفلسطينيون لإقرار العدالة، كشفوا أوجه القبح وطبائع الشر في النظام الدولي والتوازنات التي تحكم العالم، وجعلوا قادة هذه الدول عراةً أمام الرأي العام وعدالة التاريخ.
ولعل فلسطين بذلك، قد تكون باعثًا لميلاد عصر جديد يحمل نزعة إنسانية تنتصر للعدالة والحرية والإنصاف، ودافعًا في المستقبل لتفكك التوازنات القائمة على الظلم والجَور والاستعباد للإنسان والتحكم فيه من خلال سرديات مصطنعة يعمل الإعلام ووسائط الثقافة على الترويج لها، وإعادة صياغة تطلعات الجمهور من خلال أهداف ومصالح القوى المهيمنة في الاقتصاد/السوق والسياسة، التي تنبع من محددات تسعى لرسم مصائر الشعوب وضبط اختياراتها.
هذا النموذج الذي يحمل نزعة تحررية أصيلة للإنسان والمجتمعات؛ وليس تعبيرًا زائفًا عن الحرية وحقوق الإنسان، يمكن له أن يتطور بشكل أكبر ليحمل تأثيره الواسع والممتد في الزمن، لكنه بحاجة لاستمرار الديناميات الثقافية والقانونية والسياسية الممانعة والرافضة لمختلف أشكال الاضطهاد والتذويب القسري في السردية السائدة بأدوات ناعمة أو خشنة، ما سيعبر عن يقظة الضمير الأخلاقي لكل القوى المساندة للحق الفلسطيني.
المنحى القانوني والحقوقي: ذلك أن ما قامت به جنوب إفريقيا سيبقى معلمًا بارزًا في في كبح جماح العدوان والانتصار للقضية الفلسطينية، ويمكن أن يشكل باعثًا لعدد من الدول والمنظمات للبحث في جرائم الحرب التي ستتكشف في المستقبل، بعد أن يتوقف العدوان، وبذلك يكون العملُ على المسار القانوني، تأكيدًا للبعد المجتمعي، وفي الآن ذاته يغذّي نزعة الرفض سياسيًا، وهي نزعة تخدم مسألة العدالة في المستقبل، وتنتصف للحق الفلسطيني.
المنحى السياسي: ليس غريبًا أن نرى الالتفاف من الدول الكبرى ضد الفلسطينيين والتحيز التام لإسرائيل، فهي امتداد وأداة في الوقت نفسه بالمنطقة، لكن الغرابة كامنة في الموقف العربي، ذلك أن الحرب ما كان لها أن تستمر لو كان هناك موقف عربي موحد ومناصر للحق الفلسطيني، مما يعني أن عددًا من الدول العربية شريكة في المأساة التي يتعرض لها الفلسطينيون؛ بسبب جمود الموقف أو الانزياح في الاتجاه الآخر بشكل صامت.
وبإجمال؛ إذا نظرنا للموقف السياسي لعدد من الدول الغربية، فإنه مع استمرار الحرب. حدث انقسام وتباين، كما جرى مع تعليق الدعم لهيئة الأونروا، إذ رفضَ عدد من الدول تعليق الدعم، كما أن الانخراط الشامل في البروباغندا بداية الحرب تراجعَ أمام الوضع الكارثي الذي خلّفه العدوان، وهو ما يمنح أفقًا للحق الفلسطيني، ويذكر بطبيعة القضية، ليس فيما له علاقة بدولة على الورق يرفع علمها في الأمم المتحدة دون أثر واقعي على الأرض، وإنما بخصوص المحددات التي ظلت تحكم هذه الدول مع حقوق الشعب الفلسطيني ومع إسرائيل نفسها.
فاهتزاز الرواية السائدة أو تغيّر مجراها يؤدي لا محالة على المدى البعيد إلى تحيين الموقف، لا سيما تحت ضغط الرأي العام، الذي قد لا يخضع لحسابات المصالح، وإنما للتكوين النفسي والذهني المناهض للشموليات وللحرب، بفعل التجارب المريرة.
3- الغرب الآخر.. المناهض للعدوان والمساند للحرية والعدالة
قد يرى البعض أن ما صدر عن محكمة العدل الدولية لا أهمية له، ما دامت هذه المؤسسة، إحدى تجليات المنظومة الدولية المهيمنة منذ الحرب العالمية الثانية، وأن إنفاذ أحكامها يحتاج إلى قرار من مجلس الأمن، وهذا كله صحيح لا غبار عليه.
لكن أهم ما ينبغي الانتباه له، أن الغرب ليس كتلة واحدة، وإنما هو كتل متنوعة متداخلة ومتباينة في الآن ذاته، فالموقف الرسمي لعدد من الدول الغربية في حرج ومأزق أمام الرأي العام بفعل اندفاعاته اللاإنسانية في مساندة العدوان، والرأي العام سلطة فاعلة ضمن نسيج من الوعي الغربي المناهض للحروب ونزعات التدمير بدوافع أخلاقية وتاريخية.
إن الغرب الآخر المناهض للعدوان، والذي ينتفض بدوافع أخلاقية لوقف الحرب وإنصاف الحق الفلسطيني، يحمل في وعيه ذاكرة من الحروب الدموية والخراب والإهانة، خرج منها بتعاقدات تحمي الانجراف نحو الأنانيات التي تهيمن على السياسة والسوق، وتعمل على هندسة العالم وضبطه على إيقاع المصالح في غياب تامّ للأخلاق والقيم وسلطة القانون.
تلك التجرِبة المريرة، أفرزت منظومةً على مستوى النسيج المدني والاجتماعي والثقافي، تجعلها فعّالة كلما ظهر انحراف يضرّ بالخلفية الأخلاقية والإنسانية، ويهدد أسس التعاقد التي خلّصت هذه المجتمعات من نزعة الشمولية والخراب، وهو ما ظهر في الانحياز اللامشروط ضد القضية الفلسطينية، والذي يلقى مقاومة متنوعة من ضمير حي أخلاقيًا وإنسانيًا، امتدّ في كل ربوع العواصم الغربية، وهو ما غابَ للأسف في دول عربية مختلفة؛ بسبب غياب الديمقراطية وسلطة الرأي العام / الإرادة العامة.
ختامًا؛ هذا لا يستبطن تمجيدًا، وإنما هو فهم للموقف بين الانزياح والتحيز الرسمي والموقف الشعبي والمجتمعي، حتى يتحصل الوعي بالتقاطعات الممكنة، والتي قد تشكل أرضية مشتركة مع الشرق وقواه ونخبه الفاعلة في القضايا العادلة وفي مقدمتها فلسطين والحق الفلسطيني، ثم في قضايا الفكر والسياسة والاجتماع.
ذلك أن هندسة العالم سياسيًا وثقافيًا على قالب واحد بما يخدم مصالح القوى المهيمنة، يشكل في الآن ذاته تهديدًا للنسيج الغربي الذي يستحضر معيارية قيمه الخاصة مثلما يهدد الشرق بنزعته الاستعمارية، وتذويبه للفروق الثقافية، وبصيغة أخرى الهندسة الثقافية والسياسية للعالم برمّته من منطلق القوّة وليس الحقّ.