فلسطين أون لاين

"راضية ببتر قدمي اليسرى وأطالب بالسفر لإنقاذ الأخرى"

تقرير أسماء شحادة.. توقف النزيف ولم يغلق الجرح

...
أسماء شحادة.. توقف النزيف ولم يغلق الجرح
غزة/ يحيى اليعقوبي:

قبل أن تغلق عينيها من أثر المدخر حاولت إقناع الطبيب مرة أخرى داخل غرف العمليات بعدم بتر قدمها تبحث عن بصيص أملٍ في آخر اللحظات: "شايف يا دكتور هيني بحرك أصابعي!" فكان إزالة جزء من جسدها، أشبه بانتزاع روحها، تفكر بحالها بعد أن تبتر القدم وتسترجع ذكرياتها وهي تقف أمام طالباتها بالمدرسة لكن الطبيب وضع أمامها خيارين مع خطورة حالتها كان قد خيرها بذلك سابقًا"إما البتر، أو ستفقد حياتها"، على مرارة الخيار الأول أجبرت على الموافقة عليه وقبوله بقلبٍ صابرٍ متألم.

زال آثر المخدر بعد ساعات من إجراء العملية، وفتحت "أسماء" عينيها تطل من شرفة الحزن على واقع جديد لم تجربه أو تتعايش معه، يداهمها إحساس غريب بفقدان طرف قدمها الأيسر (أسفل الركبة) تخلصت من الألم الذي رأته خلال رحلة علاجية كان الموت دائما يحوم حولها، لكن الجرح لم يغلق مدركة أن "ألم فقد الطرف لن يستطيع أمهر طبيب إغلاقه"، رغم رضاها بقدرها "الحمد لله على كل شيء".

كانت عملية البتر نهاية قصة صعبة وتفاصيل مريرة عاشته الشابة أسماء شحادة التي تسكن بمنطقة الفالوجا شمال قطاع غزة، بدأت تفاصيلها عندما نزح مع عائلتها لمدرسة شادية أبو غزالة بعد أسبوع من العدوان الذي بدأ في 14 أكتوبر/ تشرين أول 2023، ومكثت بالمدرسة حتى نهاية شهر نوفمبر لحظة الاتفاق على هدنة إنسانية حينها عادت العائلة منزلها.

مع انتهاء آخر ساعة من التهدئة، بدأت الصواريخ والقصف تسقط بشكل "جنوني" على منطقتها، فعادت العائلة للمدرسة، وأمر الاحتلال النازحين فيها بالتوجه لمدارس غرب مدينة غزة، واستقر بهم الحال بمدرسة العائلة المقدسة بجوار ملعب فلسطين مع ساعات المغرب، ونامت ليلة صعبة لم تغلق عيونهم نتيجة القصف.

رحيل بمجموعات

التاسعة صباحًا، اتخذت العائلة النازحة قرارا بالخروج من المدرسة على شكل مجموعات فكانت وجهتهم الذهاب نحو مجمع مدارس تأوي نازحين نتيجة القصف العنيف وإطلاق الرصاص بشكل مكثف في محيط المدرسة.

بعد نصف ساعة، خرجت أسماء وطفلتاها وجارتها "أم ناصر" يرافقهم شقيقها محمود (19 عامًا) تحمل أمتعة وحقائب، لأول مرة لم تسمع صوت الصاروخ الذي وجهته طائرة حربية إسرائيلية بدون طيار نحوهم، فعلا صوت صراخهم المتتالي نتيجة الاستهداف المباشر وهم ملقون على الأرض مدة ساعة تنزف دماؤهم.

ظلت الطفلتان بقرب والدتهن المصابة بقدمها، وخالهما الممدد على الأرض قبل أن تأمرهن والدتهن بالدخول للمدرسة. كانت عائلتها تحاول سحبهم لداخل المدرسة، لكن صوت الرصاص المتواصل كان يحول دون ذلك حتى أن جيش الاحتلال استهدف اسعافين حاولا الوصول للمكان.

في إحدى غرف المصابين بمستشفى أبو يوسف النجار تجلس أسماء على سرير طبي مبتورة القدم ويحيط بها أفراد عائلتها، بصوت متماسك تنتشل بقية التفاصيل لصحيفة "فلسطين" من جيوب الذاكرة الممتلئة بالأحداث المؤلمة: "كنت أحمل أمتعة كثيرة لحظة القصف، وعندما سقط الصاروخ علينا سقطت على طفلتي، فطلب منهن الدخول للمدرسة، وبترت قدم جارتي على الفور، بينما أصيب شقيقي محمود بظهره. لم أستطع التحرك وكان النزيف يشتد".

تنظر إلى قدمها اليسار المبتورة، يتكئ وجعها على الصورة الأخيرة للحدث "استطاعوا سحب السيدة المصابة، ثم خاطروا بحياتهم وسحبوني مع شقيقي داخل المدرسة، أجرت ممرضتان وطبيب أسنان إسعافات أولية لنا بربط قدمي المصابة لتخفيف النزيف، وعندما فتحوا سترة شقيقي شاهدت أمعاءه ظاهرة من بطنه فكان المشهد صعبا وقاسيا".

روى ظمأه ورحل

استمعت شحادة لكلمات شهقات شقيقها الأخيرة، وصوته القادم من تلك الذكرى المؤلمة "كان يقول لطفلتي وهو يتألم: "سامحوني، أنا بحبكم كتير" يتشبث بالحياة لآخر نفس: "بدي أعيش.. بديش أموت" فكان يحاول زيادة عزيمته وهو يضع رأسه على قدمه "هيك كويس، مين حكى إنك بدك تموت" ثم طلب شربة ماء فأحضر له أبي ماء وروى ظمأه، وكان يقول بصوت مرتجف: "سقعان" حتى بدأ بفقدان الوعي وسمعنا شهقات روحه".

بعد فقدان نجله "محمود" واستشهاده، قرر والدها الذي يجلس بجوارها بالمشفى وأشقاؤها نقلها للمشفى "حتى لو كلفهم ذلك حياتهم"، تغلف حسرة الفقد نبرة صوتها "حملونا وساروا بنا نحو مدرسة تبعد عنا مسير عشر دقائق، وكلما كان يشتد الرصاص كانوا يضعوننا على الأرض بجوار جذع شجرة لحمايتنا، ثم يسيرون ويضعوننا على الأرض مع اشتداد صوت الرصاص حتى وصلنا المدرسة ونقلت من هناك للمستشفى المعمداني".

وصلت مستشفى المعمداني الساعة الحادية عشرة مساءً، بحالة خطيرة بين "الحياة والموت" كانت وحدات الدم التي يضعها الأطباء لها تنزل من جسدها، إلى أن تم بتر قدمها بعملية جراحية للحفاظ على حياتها.

يطبق على أنفاس ذاكرتها مشهدًا قبل خروجها من المستشفى المعمداني، تنبش في تفاصيله "كان وقتها ليلة الاجتياح البري لحي الشجاعية، عشنا ليلة خيالية مرعبة، فكنا نسمع خمسين صوت انفجار بنفس اللحظة".

بإمكانيات علاجية بسيطة عانت شحادة بعد إجراء العملية الجراحية، إلى أن جرى إعادة افتتاح مستشفى الشفاء وعودة بعض الأطقم الطبية للتطوع بالمشفى فانتقلت إلى هناك بعد ليلة التوغل البري لحي الشجاعية.

 "كانت المشفى مسروقة من المعدات والأدوية من قبل قوات الاحتلال، كان الأطباء ينظفون الجروح بدون مخدر أو مسكنات بواسطة شافرات، كان الألم شديدًا وهم يزيلون آثار الالتهابات أثناء الغيار وكل ذلك أحس به وأتألم وكانت مرحلة الغيار تستمر لمدة ساعة من الوجع والألم" تستذكر بصوت ممتلئ بالمرارة.

لمدة شهر وعشرة أيام عاشت بتلك المعاناة فظل الجرح مفتوحا ولم يلتئم، كانت وخزات الألم تداهمها في كل وقت، لعدم توفر المسكنات، وكما داهمها الألم كان الجوعُ حاضرًا بسبب شح الغذاء والمياه، تقر بذلك بكل عبارات القهر التي تجمعت في صوتها "عندما كنت أشتري مخدرا من الخارج كان أثره يزول بعد خمس دقائق فقط، فكنت أشعر بطعم الوجع بكل ألوانه، كما أنه لم يكن الطعام متوفرا".

"كنا نشرب من مياه البئر غير الصالحة للشرب وتباع لنا وأحيانا من مياه الأمطار، أذكر أنه كان تمرر علينا علبة فول ونأكل ملعقة وبنفس القدر كانت طفلتاي تأكلان من العلبة وجريحة أخرى بنفس الغرفة وبنفس القدر تقدم لهم علبة ذرة واحدة أو خلط النشا بالأرز، كما أن المكان خال من التعقيم والنظافة" تروي جانبًا من معاناتها مع الطعام رغم حاجتها لرعاية خاصة يتدفق القهر من صوتها الذي ترسمه ملامحها أيضًا، وملامح والداها الذي عايش كل هذه التفاصيل.

تجلس شحادة على سرير طبي بقدم مبتورة لم تنجُ من القصف المميت، وتعاني قدمها اليمنى التي دخلت بها شظية صاروخ من قطع في الأعصاب فلا تستطيع الوقوف عليها، مناشدة بالخروج من غزة للعلاج في الخارج لإنقاذ قدمها الأخرى والتي تحتاج لعلاج "غير موجود في القطاع حاليا كتخطيط العصب".

يمتلئ قلبها بالرضا والاحتساب معلنة رضاها بقدرها "منذ اللحظة الأولى عرفت أن قدمي ستبتر، ومن لحظتها رضيت بنصيبي، وهذا ما جعلني أتعايش وأتكيف ولم أدخل بأزمة نفسية، لكنني أريد المحافظة على قدمي الأخرى لأنها التي سوف تحملني على ظهر الحياة".

 

المصدر / فلسطين أون لاين