فلسطين أون لاين

ابنة وزوجة وشقيقة شهيد

تقرير حنين العايدي .. مصابة تجمع ثلاثية الفقد

...
حنين العايدي
غزة/ يحيى اليعقوبي

كانت قطرات المطر المتساقطة تطرق زجاج نافذة غرفتها في الطابق الثاني بالمشفى، وتشعل في قلبها نار ذكريات تأخذها بعيدًا عن آلام إصابتها فتحلق في الفضاء الواسع أمامها صورٌ لتفاصيل جميلة حينما كانت تقف مع زوجها لحظة سقوط المطر يحتسيان كوبا من القهوة في جوٍ أسري سعيد، تتحرك أمامها مشاهد أسقطت دموعها.

تطل المصابة حنين العايدي (34 عاما) من نافذة غرفتها في مستشفى أبو يوسف النجار بمحافظة رفح جنوب قطاع غزة، على الحياة خارج المشفى ومن الأفق تتدثر بدفء ذكرياتها، ترقد على سرير طبي لا تحرك قدميها المتصل فيهن جهاز مثبت عظام (بلاتين) تحاول التعافي من آثار كسور أصابتها لحظة قصف منزلها الساعة الواحدة فجر 30 من ديسمبر/ كانون أول 2023 نتج عنه استشهاد زوجها محمد أبو جري (40 عاما) وشقيقها "حسن" وزوجته وطفله ونجى معها أطفالها الأربعة.

قبل أن يطوي العام صفحة رزنامة أيامه الأخيرة، تجمعت العائلة التي تسكن بمخيم النصيرات وسط قطاع غزة أمام شاشة جهاز (LCD) يشاهدون أفلامًا كرتونية يهربون من أجواء العدوان والحرب، قبل أن ينفض كل منهم إلى فراشه، ناموا مع أحلام تداولتها حنين مع زوجها قبل أن تسدل عيناها ستار النوم: "نفسنا نسافر. نطش احنا والأولاد"، بابتسامة ورجاء أن تنتهي الحرب وافقها الرأي.

بقعة ظلام

لم تمر سوى ساعة حتى قطع صوت انفجار لا زالت صورة اهتزازه تتأرجح في ذاكرتها وهي تعيد تقليب المشاهد لصحيفة "فلسطين"، تقول: "شاهدنا أفلام كرتون حتى نرفه عن أطفالنا وعشنا لحظات فيها استقرار وكنا نحلم بالسفر بعد توقف الحرب، وأثناء نومنا شعرت بسقوط المنزل ففتحت عيني في بقعة ظلام لم أرَ شيئًا. كنت أسمع صراخ أطفالي ينادون علي بصوت خائف، ولم أستطع التحرك لأنني كنت عالقة تحت الردم الذي غطى قدمي".

طمأن الطبيب العايدي بنجاة أطفالها الأربعة أحمد ( 13 عاما)، حسن ( 12 عاما)، سارة (9 سنوات)، عمر ( 4 أعوام)، الذين خرجوا بأعجوبة من تحت الردم، واستشهد وزوجها وشقيقها، لا زالت لا تستوعب تلك الصدمة "ليس هين استيعاب فقد عمود البيت، رغم أن هذا حال الكثير من أبناء شعبنا، فالألم كبير وأنت تفكر كيف ستواجه صعوبات الحياة بعد ذلك وتربي أطفالك".

لم تبدأ مأساة حنين هنا، بل عندما كانت جنينا في رحم أمها إبان الانتفاضة الفلسطينية الأولى عام 1987 يومها اعتقل الاحتلال والدها، وولدت الطفلة بعيدا عن دفء أبيها وهدم بيتها، لتستقبله وهي بعمر 7 سنوات حينما أفرج الاحتلال عنه عام 1996، بفرحة مليئة بوجع الفقد والحرمان بعيدا عنه.

عام 2002 كانت على موعد مع أول فقد في حياتها باستشهاد والدها، لتكبر الطفلة على جرح الفقد، الذي تجرع أطفالها مراراته بعد استشهاد زوجها وشقيقها قبل نهاية العام بيوم، لتجمع ثلاثية الفقد وتصبح ابنة وزوجة وشقيقة شهيد.

بملامح غرس فيها الحزن أنيابه، ترثي فقدها وأحلامها بصوت محمل بالألم، قائلة إن "الحروب المستمرة على غزة تدمر كل الأحلام التي ترسمها في خيالك، خرجنا من منزلي بدموع عينين وذهبت لبيت عائلتي، لأعيش في مشهد مروع  استشهد فيه زوجي وأخي وزوجته وابنه، وأعيش بجروح عميقة".

كانت دموعها تختلط بالكلمات، وهي تشير لقدميها "هذا الكسر أعتبره ابتلاء من الله كي يخفف عندي ألم فقد زوجي وشقيقي، فالفقد ليس هينا ونحن طاقات وبشر".

أحلام انقضت

توقفت حنين عند صورة على هاتفها المحمول تجمعها بزوجها وأطفالها، في لحظة تلألأت عيناها بالدموع ونزف قلبها دمًا "كانت لدينا أحلام وخططنا أن ندخر مالا ونسافر وأن نشتري بيتا، لكن كل حلم هنا مبتور وناقص، حتى ليلة القصف كانت هذه الأحلام تراودنا وتشغل حديثنا".

تداهم الدموع صوتها الذي يملأه الحزن تصف زوجها بأنه حنون ولديه مبادئ وقيم وكريم وصبور وهادئ، وهو صاحب صوت ندي كان يؤم بالمصلين في رمضان ويحب المصلون سماع صوته، "عندما رأيت المطر اليوم تأثرت بشدة لأننا بهذا الوقت كنا نقف أمام شرفة المنزل ونحتسي القهوة" امتزج صوتها بتلك الأيام المحملة بالألم.

قبل ساعات من الاستهداف، شاركت زوجها مخاوفها عن صعوبة الأوضاع، "الوضع بطمنش. لو صار شيء بدنا نطلع على رفح"، بكلمات مليئة بالثبات رد طمأن زوجته "وكيلها لله. أنا مش طالع هي موتة واحدة، ويا حبذا تكون شهادة".

تقلب في هاتفها المحمول وتتوقف عند تسجيلات صوتية ندية لتلاوة زوجها للقرآن الكريم، تعلق "كان دائما ينشد ويقرآن القرآن، وفي آخر أيامه كان ينشد أناشيد وداع، وكانت هذه الأناشيد تقلقني فأطلب منه عدم ترديدها".

كباقي أهالي القطاع، عاشت العايدي هي وزوجها معاناة الحياة اليومية في نقل المياه وتوفير الطعام، واستشهاد الأصدقاء والأحباب، وكان زوجها يقابل ذلك بالصبر والاحتساب بأن "يكون سببًا في تكفير الذنوب والخطايا".

بلحظة تفرقت العائلة التي كانت قبلها بساعتين تجلس أمام شاشة تشاهد فيلم كرتون، دفن الأب ولا زالت الأم تتلقى العلاج في رحلة طويلة للتعافي، أما الأولاد فذهبوا لبيت خالتهم يعيشون حياة فقد وتشتت بعيدا عن حنان أمهم ودفء والدهم، يحرمون من طفولتهم ومن أبسط حقوقهم بالعيش حياة كريمة خالية من الخوف.

ورغم أن العايدي جربت الفقد، لكنه واجهت فقد زوجها وشقيقها وكأنها أول مرة تعيش قسوة الرحيل فـ "الفقد لا يعتاد" كما تقول، فكل شخص له مكانته في القلب، تتكئ كلماتها على عكاز الصبر "راح استمر بالحياة، حخلي أولادي سعيدين ونصنع جيل التحرير".