واهِم من يعتقد أن ما يحدث في غزة اليوم شأن محلي ذو علاقة ببقعة جغرافية ضيقة؛ أو مجرد أحداث عابرة لا امتدادَ لها في المستقبل. إن ما يتعرض له الشعب الفلسطيني من إبادة وتطهير، على مرأى ومشهد من العالم الذي يقف عاجزًا عن التدخل، يدعونا إلى وقفة تأمل لاستجلاء المعاني الكبرى المُوضِّحة لحقيقة الصراع الدائر اليوم بين شعب أعزل متشبث بحقه في البقاء والوجود، ودولة متمادية في الإصرار على حرمانه من هذا الحق.
ليس من السهل التفكير في المعاني الكبرى التي تُمكِّن العقل من النفاذ إلى صورة واقع آخر غير واقع التفاصيل اليومية الدامية وأعداد الضحايا الأبرياء الذين يسقطون على مدار الساعة في غزة. والحاصل أنّ الصراع في جوهره هو صراع حول المعنى، لا يجمع بين الفلسطينيين والإسرائيليين فحسب، كما يبدو في الظاهر، بقدر ما يجمع بين منظومتين ثقافيتين فكريتين، تستقل كل واحدة منهما بنظرة خاصة إلى القوة والوجود. ليست فلسطين وليست إسرائيل، عند التحقيق، سوى رؤوس حربة في الصراع حول المعنى بين عالمين متنافرين.
هذا ما يرشح من حديث المسؤولين الإسرائيليين أنفسهم، حيث لا يَفْتَؤُون يرددون، منذ "هرتزل" إلى اليوم، أن دولتهم ستقف حصنًا منيعًا ضد التوحش والظلامية؛ خدمة للحضارة والتنوير. وينطوي هذا القول على معانٍ ظاهرة ومبطنة، بسيطة ومركبة. وحسبنا هنا أن نشير إلى معنى واحد نعتبره صريحًا ومضمرًا في نفس الوقت، مُفادُه أن إسرائيل إذ تتمثل حقَّها في الوجود كحق تاريخي، فهي تتوسل بأحدث وسائل القوة التي يتيحها الغرب الحديث للدفاع عن هذا الحقّ في الوجود.
تحاول إسرائيل منذ نشأتِها أن تبني شرعية وجودها على عنصرَين اثنَين: التاريخ والثقافة الغربية الحديثة، هذه الثقافة التي تبرر الاستعمار وتُسوِّغه. هذا في مقابل المجتمع الفلسطيني الذي يستمدّ شرعية حقه في الوجود من الأرض.
ففلسطين، على خلاف إسرائيل، ليست سردية تاريخية يتداعى لها القوم من أطراف الأرض، أو فكرة تُحمَل على ظهر القوة المادية الغربية الحديثة؛ بل فلسطين شعب يعيش فوق أرض؛ شعب قَوَّض بوجوده المعنى الأساس الذي حاولت الثقافة الاستعمارية أن تبني عليه شرعية قيام دولة إسرائيل، المعنى الدال على أن فلسطين "أرض بلا شعب لشعب بلا أرض".
نخلص من هذا إلى نتيجة فحواها أنَّ هناك فرقًا متعلقًا بصناعة المعنى بين إسرائيل وفلسطين. إذا كانت إسرائيل تتوسل بالتاريخ وبقوة الحداثة المادية لصناعة المعنى الدال على شرعيتها في الوجود والبقاء، فإن الفلسطينيين يصدرون عن انتسابهم للأرض ووجودهم فوقها لإفادة معنى الحق في المقاومة. وبهذا نخرج من دائرة الصراع الإسرائيلي- الفلسطيني الضيقة، إلى صراع أكبر، صراع بين السرديات التاريخية المتوسلة بقوة الحداثة المادية، وبين السرديات القائمة على التفاعل مع الأرض بوصفها الموطن الأصلي للوجود.
إن للصراع الإسرائيلي- الفلسطيني تجليات في عالم المعاني. فهذا الصراع لا يقف عند حدود جغرافية ضيقة، بل يمتد ليشمل العالم كله. ذلك أنه يجمع بين نظرتين مختلفتين للعالم: فأما النظرة الأولى فينطلق أصحابها من فكرة توسعية تستحثهم على بسط قوتهم وسيطرتهم على الأرض، كامل الأرض، حتى وإن اقتضى ذلك تجريد الشعوب من انتسابها إلى أمكنتها؛ وأما النظرة الثانية فيتشبث أصحابها بكل ما أوتوا من قوة بحقهم في البقاء فوق أرضهم.
إذا كان الصراع حول الأرض يتخذ شكلًا مسلحًا صريحًا في السياق الإسرائيلي – الفلسطيني، فإنه يتخذ أشكالًا رمزية وثقافية كلما زدنا ابتعادًا عن جغرافيا هذا الصراع. عند التحقيق نجد أن شعوب المنطقة كلها- هذا إن لم نقل شعوب العالم قاطبة- تتعرض لأبشع عملية تقويض لعلاقاتها القائمة مع أرضها. فالعالم قد صار مسطحًا، كما يذهب "توماس فريدمان" إلى القول من خلال عنوان كتابه: (The World is Flat).
ومن مظاهر التسطيح عندنا أنك صرت حيثما يمّمت وجهك تجد كائنات غريبة لا يربطها أي رابط بثقافتها الأصلية النابعة من تفاعل أجيال وأجيال مع الأرض.
يكفي أن نلقي نظرة سريعة على برامج الترفيه الإذاعية والتلفزيونية المستنسخة في العالم العربي والإسلامي، كي نتحقق مما يحصل من تجهيل وتهجير للعقول من عالم معانيها الأصلي، إلى عوالم معانٍ مجردة، مُغرقة في التفاهة والرداءة والسخافة.
ومعلوم أنه كلما زادت الشعوب غرقًا في هذه العوالم المجردة سهل اجتثاثها من بيئتها الثقافية وسهل الزج بها في منظومة اقتصادية مالية تنضبط بضوابط رأس المال وقيم السوق، كما يسهل إخراجها من سرديتها التاريخية لإلحاقها بسرديات الآخرين.
يمكن القول؛ إن غزة تمثل آخر معقل من معاقل صمود العالم العربي والإسلامي في وجه منظومة حضارية ترى في التوسع الجغرافي قدرًا محتومًا ومسؤولية يمليها الواجب الأخلاقي الديني، كما كان شائعًا في المجتمع الأميركي خلال القرن التاسع عشر عبر مقولة: "القدر الحتمي" أو "المصير المتجلي" (Manifest Destiny).
بعد غزة سيكون العالم العربي والإسلامي مجبرًا على خوض حرب من أشرس حروب المعنى لاسترداد حسّ الانتماء إلى الأرض، هذا الحسّ الذي تقوم عليه منظومتهم الثقافية.
لقد أدرك الكثير من الشعراء والفلاسفة والمفكرين في تاريخ الغرب، منذ القرن التاسع عشر، أن الحداثة قد أرست ثقافة تقوم على تجريد المعاني من علاقتها مع الأرض موطن الوجود الأصلي. وكأننا بهم ينظرون بعين ثاقبة لما سيؤول إليه العالم، تحت إمرة هذه الحداثة، من ثقافات مجردة مع إحكام قبضة المذهب الأنجلو- أميركي النفعي، ثم مع انتصار المنظومة التكنولوجية المؤسّسة للعوالم الافتراضية والصانعة لواقع ما فوق الواقع.
حين نتأمل قصائد "والت ويتمان" التي نظمها بديوانه الشعري "أوراق العشب" (Leaves of Grass)، نجدها محاولة لتخليص الثقافة الأميركية الناشئة من ثقل السردية القائمة على منطق التطور الإلحاقي، الذي يروم إخراج العالمين من أحيازهم الجغرافيّة باتجاه أفق وجودي موعود.
يكفي التأمل في عنوان الديوان "أوراق العشب" لإدراك ما يصبو إليه "ويتمان" من معانٍ تدعو إلى تأسيس الحياة الثقافية في أميركا على النظر في تفاصيل الأرض الصغيرة. ويصرح في إحدى قصائده المضمنة في الديوان أنه "يتغنّى بميلودية الأرض"؛ أي بأشكالها الملهِمة لمعاني الوجود الحقيقية.
لم ينتصر التيار الداعي في السياق الأميركي إلى الاكتفاء بالأرض كموطن للوجود، بل انتصر التيار البراغماتيّ الذي يوظف القوة المادية لبلوغ العلوّ في الأرض؛ طلبًا لفرض ثقافة كونية مجردة عن الخصوصيات الجغرافية المتعددة والمتنوعة.
فليس غريبًا -والحالة هذه- أن تجد إسرائيل سندًا لها في أميركا فتستعلي، بدورها جغرافيًا على شعوب المنطقة، مصرحة بأنها ذات هوية غربية وليست شرقية، متبجّحة بأنها الكيان الوحيد الذي يستطيع أن يجسد في أرض الشرق قيمَ الغرب الكونية.
هذا جوهر ما يسعى "برنارد لويس" وأتباعه إلى تثبيته في المخيلة الغربية. ولا يجد "لويس" أدنى حرج في دعوته العالم العربي والإسلامي إلى تخليص ثقافته من حسّ الارتباط بالأرض كشرط لولوج زمن الحداثة الغربية الكوني.
كلما أعاد المرء قراءة كتابه حول العلاقة المتوترة بين الإسلام والحداثة (What Went Wrong) زاد يقينًا بأنَّ صراع إسرائيل مع الفلسطينيين هو من جنس الصراع الذي يجمع بين معنيَين: معنى أن تخلق هُويتك الثقافية في تفاعل مع الأرض، ومعنى أن تطلب العلوّ في الأرض سبيلًا لخلق ثقافة.
يخوض المستوطنون الإسرائيليون ومن يقف وراءهم من المتشددين حربًا على الفلاح الفلسطيني البسيط، فتجدهم يقتلعون أشجار زيتونه، ويهدمون مقومات وجوده. ونجد في هذا السلوك دليلًا على عمق أزمة إسرائيل الوجودية. تريد أن تستبدل مستوطنًا بفلاح، مستوطنًا يأتي على ظهر دبابة، عوض فلاح يخرج من صلب الأرض.
إذا قبل العالم العربي والإسلامي بما يحدث من هدم ممنهج لمقومات وجود الفلسطينيين فوق أرضهم، فسيقبل لا محالة بالهدم الممنهج الذي يطال مقومات وجودهم ككيانات تستمد خصوصيتها الثقافية من تفاعل طويل مع الأرض، مصدر المعنى وموطن الوجود.
حين نتأمل فيما أصبح يطلبه صحفيون ومثقفون وجامعيون ورجال دين من بطولة تافهة على مواقع التواصل الاجتماعي، وهم يتساوون في ذلك مع غير الأسوياء من القوم، نميل إلى القول بأن السخافة قد أحكمت حلقاتها حول الثقافة في العالم العربي، وهو ما سيُصعِّب الولوج إلى عالم المعاني الأصيل حتمًا.
لكن ومع هذا كله، هناك بوادر كثيرة أصبحت تؤشر إلى وجود وعي متنامٍ بأن ما يحدث في غزة يدشن لا محالة لمرحلة جديدة في تاريخ العلاقة بين الغرب والشعوب العربية والإسلامية، هذا إذا لم نقل بين الغرب وبين شعوب الأرض قاطبة.
وخلاصة القول؛ إن من يلتمس المعنى لوجود إسرائيل بالشكل الذي هي عليه ولما تقوم به من جرائم في حق الشعب الفلسطيني، فلن يجد أي معنى. والمعنى- كما لا يخفى- يفيد معنى الوجهة التي يسلكها الإنسان في عالم الدلالة الحسي الفِطري الطبيعي.
فليس لوجود إسرائيل ولما تقوم به من معنى إلا في عالم مجرد يستفرد فيه القوي بصناعة المعنى ليفرضه قسرًا على الآخرين.