اتخذت حكومة جنوب أفريقيا أقوى موقف لها حتى الآن ضد الحرب الإسرائيلية على غزّة، واتهمت إسرائيل بارتكاب إبادة جماعية ضد الفلسطينيين في قضية جديدة أمام محكمة العدل الدولية في لاهاي. ورفعت جنوب أفريقيا القضية يوم الجمعة (29 ديسمبر 2023) وطلبت من محكمة العدل الدولية أن تأمر إسرائيل بوقف هجومها على غزة على الفور.
قد لا تؤثر هذه القضية على نتيجة الحرب تأثيرًا كبيرًا، إلا أنها تؤكد الروابط طويلة الأمد بين نضال التحرير الذي خاضه السود في جنوب أفريقيا ونضال الشعب الفلسطيني، كما أنها تشير إلى رغبة البلاد في تحدي النظام الدولي الذي تهيمن عليه الولايات المتحدة، والذي تعتبره غير عادل للمصالح أفريقيا وغير الغربية.
وينص التماسَ جنوب أفريقيا المؤلف من 84 صفحة على أن «تمثّل الأفعال والتجاوزات التي ارتكبتها إسرائيل، والتي اشتكت منها جنوب أفريقيا، إبادة جماعية في طابعها؛ لأنها تهدف للقضاء على جزء كبير من المجموعة الوطنية والعرقية والإثنية الفلسطينية»، في انتهاك لاتفاقية منع جريمة الإبادة الجماعية والمعاقبة عليها لعام 1948.
وسرعان ما رفضت إسرائيل الطلب «باشمئزاز»، واصفة إياه بـ «فرية الدم»، في إشارة إلى الاتهام الكاذب الذي انتشر في أوروبا في القرون الوسطى حول أن اليهود يقتلون المسيحيين، ويستخدمون دماءهم في طقوسهم، وهو ما كان دافعًا لقمع المجتمعات اليهودية.
تختلف محكمة العدل الدولية عن المحكمة الجنائية الدولية، إذ تحقق الجنائية الدولية حاليًا في جرائم الحرب المزعومة التي ارتكبتها كل من إسرائيل وحماس نتيجة لهجمات 7 أكتوبر/تشرين الأول. أُنشئِت المحكمة الجنائية الدولية للتحقيق مع الأفراد على أعلى المستويات المتهمين بالتخطيط وتوجيه جرائم الحرب ومحاكمتهم، في حين أن المحاكم الوطنية هي المكان المناسب عادة لمحاكمة مرتكبي جرائم الحرب من المستوى المنخفض، مثل المقاتلين الأفراد الذين يُشتبه بارتكابهم جرائم حرب بتوجيه من هؤلاء القادة أو القادة رفيعي المستوى.
ويمكن لأي دولة، بموجب اتفاقية الإبادة الجماعية، توجيه اتهامات بالإبادة الجماعية ضد دولة أخرى أمام محكمة العدل الدولية، بغض النظر عما إذا كانت هذه الدولة طرفًا في النزاع أم لا، ورفعت غامبيا في عام 2019 قضية إبادة جماعية ضد ميانمار بسبب جرائمها ضد جماعة الروهينجا الإثنية، وأيَّدت محكمة العدل الدولية شرعية القضية في عام 2022. ويمثل التماس جنوب أفريقيا أحد السبل القليلة أمام هيئة دولية لإصدار بيان واضح حول أفعال إسرائيل في قطاع غزّة.
تواصل إسرائيل قصف قطاع غزة الذي تحكمه حماس منذ هجوم الجماعة على إسرائيل في 7 أكتوبر/تشرين الأول. وخلال ذلك الهجوم، قتلت حماس ومقاتلون من حركة الجهاد الإسلامي الفلسطينية 1200 شخص واحتجزوا 240 رهينة، وقد أُطلِق سراح العديد منهم. ومنذ ذلك الحين، قتلت إسرائيل أكثر من 21 ألف غزّيًا، من بينهم أكثر من 8500 طفل، بحسب المكتب الإعلامي الحكومي في قطاع غزة. كما أجبرت 1.9 مليون إنسان على النزوح داخليًا، ودمرت ما يقرب من 70% من المنازل، كليًا وجزئيًا، ودمّرت 50% من مباني القطاع. وأشادت وزارة الخارجية الفلسطينية بالإجراء الذي اتخذته جنوب أفريقيا ودعت المحكمة إلى «التحرك الفوري لحماية الشعب الفلسطيني ودعوة إسرائيل، القوة المحتلة، إلى وقف هجومها ضد الشعب الفلسطيني».
يصعب إثبات اتهامات الإبادة الجماعية؛ لأنها لا تشمل الأفعال فحسب، بل تشمل النوايا أيضًا. طوال فترة الصراع، اتهم النشطاء والباحثون والسياسيون المؤيدون للفلسطينيين إسرائيل بارتكاب إبادة جماعية، وهو اتهام موجود منذ تأسيس إسرائيل في أعقاب المحرقة، لكن الفرق الآن هو وجود محاكمات ناجحة للإبادة الجماعية في القرن العشرين، في رواندا والبوسنة، من خلال المحاكم الجنائية الدولية التي شكلتها الأمم المتحدة.
يتمتع حزب المؤتمر الوطني الأفريقي الحاكم في جنوب أفريقيا بعلاقات عميقة مع منظمة التحرير الفلسطينية، تمتد إلى زعيمها السابق وأول رئيس لجنوب أفريقيا بعد الفصل العنصري، نيلسون مانديلا. أيّد حزب المؤتمر الوطني أفريقيا منظمة التحرير الفلسطينية وغيرها من القضايا الثورية في أثناء وجود مانديلا في السجن، وبعد إطلاق سراحه، كان مانديلا مؤيدًا قويًا لمنظمة التحرير الفلسطينية وزعيمها ياسر عرفات، وقال في عام 1990: «نتعاطف مع منظمة التحرير الفلسطينية لأنها، مثلنا تمامًا، تناضل من أجل حق تقرير المصير».
وبعد مرور عقود من الزمن، ما يزال الشعور نفسه قائمًا في حكومة جنوب أفريقيا، وفي نظر العديد من مواطني جنوب أفريقيا الذين يرون تقاطعًا بين نضالهم ضد الاستعمار والفصل العنصري وبين محنة الفلسطينيين ونضالهم المستمر منذ عقود من أجل تقرير المصير. ونرى هذا بشكل واضح الآن في عام الانتخابات في جنوب أفريقيا، حيث يكافح حزب المؤتمر الوطني الأفريقي وزعيمه الرئيس سيريل رامافوزا للبقاء مهيمنًا على السلطة هناك.
وقال مايكل والش، الباحث الزائر في جامعة كاليفورنيا بيركلي، لموقع ڤوكس: «توجد سابقة تاريخية كبيرة للأمر، سواء في السياق السياسي المحلي أو في السياق الأخلاقي والقانوني. فجنوب أفريقيا منخرطة في القضية الفلسطينية منذ نهاية نظام الفصل العنصري وتأسيس الدولة، وكانت قضية بارزة في سياستهم وبين زعمائهم». ولا يعدُ التماس جنوب أفريقيا لهذه القضية في محكمة العدل الدولية الخطوة الأولى التي تتخذها لمحاسبة إسرائيل على هجماتها على غزة، إذ أدان رامافوزا مرارًا وتكرارًا الانتهاكات الإسرائيلية ضد الفلسطينيين. منذ هجمات 7 أكتوبر/تشرين والحملة الإسرائيلية اللاحقة على غزة، أدانت حكومة جنوب أفريقيا إسرائيل أكثر من مرة في الصحافة الدولية. وصوت البرلمان على إغلاق السفارة الإسرائيلية وسحب موظفيها الدبلوماسيين من إسرائيل، في حين قدمت وزارة الخارجية إحالة إلى المحكمة الجنائية الدولية للتحقيق في الجرائم المزعومة، بما في ذلك جريمة الإبادة الجماعية، في الأراضي الفلسطينية في نوفمبر.
وعلى الرغم من أن تضامن جنوب أفريقيا مع القضية الفلسطينية يشكل جزءًا حاسمًا من إدانتها لإسرائيل، إلا أنه توجد أسباب داخلية وخارجية لمحاولة محاسبة إسرائيل على الساحة الدولية، أحد هذه الأسباب حسب والش هو «شرعية جنوب أفريقيا في النظام الدولي، وليُنظر إليها بوصفها فاعلًا رئيسًا»، وأضاف «يوجد تصور بأن مكانة جنوب أفريقيا قد تراجعت بالفعل في الساحة الدولية».
ويرجع هذا التصور جزئيًا على الأقل إلى رفض جنوب أفريقيا اعتقال الدكتاتور السوداني عمر البشير في عام 2015، عندما سافر الزعيم المخلوع إلى البلاد لحضور اجتماع للاتحاد الأفريقي. وكانت المحكمة الجنائية الدولية قد أصدرت أوامرًا باعتقال البشير بتهم جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية في عام 2009، ويتهم الإبادة الجماعية في عام 2010، وكانت جنوب أفريقيا، باعتبارها دولة طرفًا في المحكمة الجنائية الدولية، ملزمة باعتقال البشير وإحالته إلى المحكمة لمحاكمته. إلا أن المحكمة الجنائية الدولية فشلت فعليًا في معاقبة البلاد برفضها إحالة جنوب أفريقيا إلى مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة أو جمعية الدول الأطراف في المحكمة الجنائية الدولية، ربما بسبب القلق من انسحاب جنوب أفريقيا من المحكمة الجنائية الدولية.
وتجنبت جنوب أفريقيا معضلة مماثلة في العام الماضي عندما اختار الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، الذي يخضع أيضًا لمذكرة اعتقال من المحكمة الجنائية الدولية بسبب غزوه لأوكرانيا في عام 2022، حضور قمة عبر الفيديو بدلًا من حضوره شخصيًا في الصيف الماضي.
وقال والش: «لقد مورست ضغوط كبيرة على جنوب أفريقيا على مدى العامين الماضيين للتعامل مع الأفراد المتهمين بارتكاب جرائم حرب، ولكن من الواضح أنهم ليسوا إلى جانب الطيف السياسي الغربي على المستوى الدولي». ومن خلال قضية محكمة العدل الدولية، أصبحت جنوب أفريقيا قادرة على فرض نفسها كفاعلٍ في الساحة الدولية، والتعبير عن تضامنها طويل الأمد مع القضية الفلسطينية، والتفاعل مع مشاعرها السياسية الداخلية، والإشارة إلى اختلال التوازن في الهيئات الدولية عندما يتعلق الأمر بمحاكمة جرائم الحرب.
وقال والش إن لدى جنوب أفريقيا «اعتقاد راسخ بأن إسرائيل ترتكب جرائم حرب، وأنه توجد حاجة ماسة لمحاسبة أي دولة ترتكب جرائم حرب. وأعتقد أنهم يرون نفاقًا هائلًا في كيفية محاكمة جرائم الحرب في جميع أنحاء العالم. ولذا فقد جعلوا من هذا سببًا».
وقالت إيفا فوكوفيتش، الأستاذة المساعدة في التاريخ الدولي بجامعة أوتريخت، لصحيفة الغارديان، إن محكمة العدل الدولية تمثل أحد السبل الوحيدة لعرض النزاع أمام هيئة دولية، حيث إنه «ليس لدى الدول، على مستوى العالم، الكثير من الأماكن التي يمكن أن تذهب إليها في مثل هذه المواقف، خاصة وأن مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة يعاني من الاستقطاب والاختلال الوظيفي»، بيد أنها لا تتمتع بقدرة كبيرة على إنفاذ قراراتها. وتستطيع المحكمة الجنائية الدولية أن تحاكم جرائم الإبادة الجماعية، والجرائم ضد الإنسانية، وجرائم الحرب، وجريمة العدوان، على سبيل المثال، الغزو الروسي لأوكرانيا. ولديها القدرة على احتجاز الأشخاص في لاهاي حتى يتمكنوا من قضاء مدة عقوبتهم في إحدى الدول التي وافقت على تنفيذ تلك الأحكام. وتستطيع محكمة العدل الدولية أن تصدر أحكامًا في هذا الشأن أيضًا، ولكن ضد الدول وليس ضد الأفراد.
بيدَ أنّ آلية تنفيذ هذا الحكم هي الحكم ذاته، وهذا لا يعني أن الدولة سوف تمتثل، فقد قضت محكمة العدل الدولية، مثلًا، بأنه يجب على روسيا إنهاء أعمالها العدائية في أوكرانيا على الفور، بينما تستعد الحرب هناك لدخول عامها الثاني. ومن الناحية النظرية، يفرض مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة العواقب في حالة عدم امتثال أحد الأطراف في القضية، ولكن، كما أشارت فوكوشيتش، فإن هذه الهيئة مسيسة إلى حد كبير، وخاصة بين الأعضاء الخمسة الدائمين الذين يتمتعون بحق النقض. وقد تمر أشهر أو حتى سنوات قبل أن تصدر محكمة العدل الدولية حكمها في هذه القضية. لكن على المدى القريب، تدعو جنوب أفريقيا إلى إصدار أمر مؤقت لوقف إطلاق النار من المحكمة، والذي يمكن أن يصدر في الأسابيع المقبلة، حسبما ذكرت وكالة أسوشيتد برس.