"الوضع كتير بخوف، بدناش نضل ببيت واحد، بدنا نتفرق. إذا بتقدر تصلنا هات خبز" كان الصاروخ الإسرائيلي أسرع من أن تحقق حنان نصر أبو عبيد (33 عاما) أمنيتها عندما اتصلت بزوجها محمد صلاح (33 عاما) الساعة الثامنة والنصف مساء في ثالث أيام العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة (10 أكتوبر، تشرين أول 2023)، نقلت له خوف أطفاله الخمسة من القصف الإسرائيلي المتواصل في محيط بيت عائلتها الواقع في منطقة "بئر النعجة" شمال مدينة غزة، بينما نزح هو بعيدا عن منزله الواقع بأبراج العودة شمال القطاع إلى داخل معسكر جباليا.
لم تمض أكثر من نصف ساعة على الاتصال الذي جرى بين صلاح وزوجته على تطبيق مواقع التواصل الاجتماعي "ماسنجر"، حتى جاءه اتصال من شقيقه يخبره بقصف منزل عائلة أبي عبيد.
في مساء ماطر في تلك الليلة، وبين جنح الظلام وشوارع فارغة، رفض أن يبقى أسير لاحتمالات تسيطر على أفكاره على مصير عائلته، رغم أن كل اعتقاده انحصر ب "وجود قصف قريب بأرض زراعية بمنزل عائلة زوجته"، فأخرجه القلق والخوف ركضا لعدة كيلو مترات حتى وصل منزل أنسبائه.
"- البيت مدمر – في حد نجى؟- لا، كل اللي طلعوا كانوا مستشهدين- حسن. إسماعيل. سامعيني يابابا، حنان سامعاني!؟" كل محاولات صلاح العثور على أي إجابة تطمئن قلبه وتعطينه خيط أمل رفيع باءت بالفشل أمام فاجعة قصف طائرات الاحتلال منزل عائلة زوجته.
قبر جماعي
ذهب للمشفى فوجد زوجته وابنه في ثلاجات الشهداء والموتى يملأ جسد طفله جروحا من القصف وحروق جراء استخدام أسلحة محرمة دوليا نتج عن المجزرة استشهاد 18 مواطنا من عائلة أبي عبيد بينهم زوجته وأطفاله الخمسة محاسن (9 أعوام) وإسماعيل (8 أعوام) وحنان (6 أعوام) ومجد (3 أعوام) وليان (عامان).
تراصت جثامين أطفاله أمامه حينما جرى انتشال معظم من كان تحت الأنقاض، مشهد لم تفارقه دموع تساقطت على الجثامين في لحظة وداع لم يتوقع حدوثه، وأن يبقى وحيدا بدونهم.
وضع الشهداء بحفرة جماعية احتضنت جثامينهم وأشلاءهم، ووضع عليها شاهد واحد ليبقى شاهد على واحدة من مئات المجازر الإسرائيلية التي ارتكبها الاحتلال الإسرائيلي.
درست زوجه التربية الإسلامية من الجامعة الإسلامية وكذلك درست تخصص السكرتارية، كانت تتمنى أن تعيش "بسلام" بعيدا عن أصوات الحرب وقذائف المدفعية وصواريخ الطائرات، وكانت دائمة الحرص على سلامة أطفالها مع كل حرب أو تصعيد كونها تسكن شرق منطقة بيت لاهيا.
"كوننا نسكن بمنطقة حدودية، نقوم بتأمين أنفسنا مع كل تصعيد. ذهبت إلى أهلي بمنطقة تل الزعتر شمال القطاع، وأرسلت زوجتي مع بداية الحرب إلى بيت والدها في منطقة" بئر النعجة "اعتقدت أنها في مأمن، وقبل اتصالها الأخير بي، طلبت مني احضار خبز واشتكت لي من عدم وجود مياه فضلا عن انقطاع الكهرباء" بكلمات لم تفارقها الدموع يروي محمد صلاح لصحيفة "فلسطين" قصته.
تقفز بقية التفاصيل أمامه "عندما أخبرت باستهداف منزل أبي عبيد، خرجت ركضا ووصلت بأعجوبة. لم أفكر بنفسي، وعندما وصلت صعقت من هول المشهد، كنت أنبش بين الركام أحاول البحث عن أي أمل وعن أي أحد ناج واستمر اخراج الجثامين من تحت الأنقاض حتى ساعات الصباح".
جرح جديد
نزح صلاح مع عائلته إلى مخازن وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين "أونروا" بمحافظة رفح بعد استمرار المجازر الإسرائيلية بحق العائلات الفلسطينية، لكنه كان على موعد مع مجزرة ثانية طالت بني عمومته برفح من عائلة "صلاح" ارتقى خلالها ستة عشر شهيدا، لتتوالى الصدمات في حياته.
فبدلا أن يجد من يواسيه وجد نفسه يواسي عائلته هناك بجرحهم الجديد. يعود من الفقد لواقعه الذي يعيشه في مركز الإيواء "هينا بمعاناة. لا أكل، ولا شرب ولا طحين".
على بسطة صغيرة لبيع المواد الغذائية يهرب صلاح مما جرى معه ويجلس بقربه أحد أقاربه من محافظة رفح تملأ قدمه رضوضا من أثر القصف الذي استهدف منزل العائلة ونتج عنها مجزرة استشهاد 16 فردا من عائلته، يحاول الاثنان التغلب على ألم فقدهما.
لم تجمعهما البسطة والروابط العائلية فقط، بل جمعهم الهم المشترك والألم ذاته، يتكئ كل منهما على كتف الآخر لعله يجد ما يضمد به جرحه أو يتناسيان ما حدث معهما مؤقتا في ظل استعار الحرب وتوالي المجازر، وحتما سيجلس كل منهما على سرير منفرد بعد انقشاع غبار الحرب عندها "لا مفر من نبش الجرح وبدء معركة الفقد" وهذا ما يقران به.
كان صلاح يشغل نفسه بالحديث مع الناس، هربا من العزلة التي تنبش ذكرياته مع أطفاله "كلما جلست بمفردي، أتذكر أطفالي ولا أتوقف عن البكاء، فهنا أخالط الناس بهدف تناسي الهم الذي لا ينسى حقيقة".
قاطعه بعض الأطفال الذين اشتروا قطعا من البسكويت، وغادروا بعيدا عنه، في لحظة حضره أصوات خوف أطفاله ورعبهم من الصواريخ، يقول: "كان أطفالي خائفين بشكل غير عادي. أول مرة يشعرون بالخوف بهذا الشكل. لم أتوقع فقدهم كلهم وأن أبقى وحيد بدونهم".
مع كل استقبال طفل جديد إلى دنيا لم تتسع الفرحة لغمر قلبه، وهو يربيهم بين "حبات عينه" ويحتفل بذكرى أيام ميلادهم التي توزعت على الأيام والشهر، ذات القلب لم يتسع لمشهد رحيلهم جميعا بتاريخ استشهاد واحد جمع أطفاله ووالدتهم.
مجزرة عائلتي "صلاح وأبو عبيد"... قبر جماعي وشاهد واحد على الجريمة
فلسطين أون لاين