فلسطين أون لاين

​إبراهيم سرحان كفيفٌ يحقق حلم الإخراج السينمائي بعين "الخيال"

...
غزة - هدى الدلو

قبل دقائق قليلة من رفع ستارة المسرح، يتجول إبراهيم بكل أريحية على تلك المنصة الخشبية لمعرفة أدق تفاصيل الدخول والخروج والكواليس وأماكن نصب الكاميرات، فيشاهدها بقدميه، ويرسم صورة خيالية للمسرح ومكان وقوف الممثلين، وكيفية التنقل بين المشاهد بكل سلاسة وبساطة، ليؤكد أن فقدانه للبصر، لا يعني فقده لنور البصيرة ولا التنازل عن حلمه بأن يصبح ممثلًا مشهورًا، بل عض على ذلك الحلم بالنواجذ، ولعدم ثقة الآخرين به كممثل كونه كفيفًا، فقد تعلّم الإخراج، ليخرج أعماله بنفسه، ويسعى حاليًا إلى أن يدخل موسوعة "غينيس" للأرقام القياسية من أوسع أبوابها.

حلم التمثيل

إبراهيم سرحان (27 عامًا) من سكان مدينة غزة، ركب أمواج الحياة في سن صغيرة، فعصفت به بعيدًا عن حلمه، ولكنه استطاع مواجهة الظروف الحياتية بكل ما أوتي من قوة، فتحدى نفسه ومن حوله ممن كسروا أشرعة سفينته عندما شككوا في قدرته على الوصول لمراده، بسبب فقدانه لنعمة البصر، فبعد أن أصبح في نظر الناس "معاقًا"، قرر أن يدخل في مواجهة مع مجتمع "معيق".

جلوسه أمام القنوات التلفزيونية ومتابعته بشغف للمسلسلات، ومشاهدته لأداء الممثلين المشهورين، وتمكنه من تقليد أدوارهم، عوامل جعلته يرسم حلمه في أن يكون ممثلًا.

بدأت إرهاصات الموهبة تظهر على شخصيته مبكرًا، ففي الصف الثالث الابتدائي طلب من مربي الفصل المشاركة في احتفال يوم الأم بفقرة إنشادية، غنّى فيها أنشودة بعنوان "أمي الحنونة"، وكان كل ما يفكر فيه، حينها، أن يعتلي منصة المسرح المدرسي رغم معرفته بأن صوته "سيئ وليس جميلًا".

لم يكن ينتظر من أحد أن يقترح عليه المشاركة، بل كان يقدم عروضًا لاستعراض موهبته والحديث عن شغفه بشكل عملي، ففي الصف التاسع طلب من أستاذ الصحة أن يسمح له بتقديم مسرحية في الاحتفال بيوم الصحة العالمي، ثم أطلق العنان لخياله، وسمح لنفسه بالعيش في حالة شرود ذهني للخروج بفكرة مميزة، فاختار الحديث عن النظافة وأهميتها للصحة، مستعينًا بابن عمه الأصغر منه سنًا كممثل معه في المسرحية، وبأدوات بسيطة أدى المسرحية على أكمل وجه.

وقال سرحان لـ"فلسطين": "رغم بساطة الاسكتش المسرحي الذي قدمته، إلا أنني توليت مهام كاتب النص، والمخرج، مع المشاركة في التمثيل، إلى جانب أني قدمت عروضًا أخرى كالكاراتيه والننشاكو، واستعراض لخروج من النار فمي، والنوم على المسامير والزجاج المكسر، فأصبحت مشهورًا بين الطلبة، الذين لقّبوني بـ(سوبر مان)".

أما العروض المختلفة التي قدمها، لم يلقَ ضيفنا تشجيعًا مباشرًا، لكنه قرأه في نظرات المدرسين والطلبة.

بل مبصر

في تلك الفترة، كان تفكير سرحان أكبر من عمره، فلم تجذبه الدراسة والتعليم بقدر بحثه عن الاستقرار المادي في شتى جوانب حياته، فافتتح مشروعًا خاصًا به، وفي العطلة الصيفية فتح مكتبًا للتصميم والدعاية، كما كان يبحث عن أي مناسبة وطنية من أجل ممارسة هوايته في التمثيل، ومن ثم التحق بالمعهد الأزهري، ولكن التغيرات المفاجئة في صحته حالت دون إكمال تعليمه.

بدأ نظر سرحان يضعف رويدًا رويدًا، حتى ظهرت الدنيا أمامه صورة سوداء لا لون فيها، كان عمره، آنذاك، لم يتعدَّ العشرين، تقبل الأمر ببساطة غير متوقعة، ليبدأ في رحلة علاجية، بدأت باعتقاد الأطباء بإصابته بورم سرطاني أثّر في العصب المركزي للعين.

أوضح: "تم تحويلي إلى مستشفيات القدس المحتلة، وهناك صارحني الطبيب بأن نسبة نجاح العملية لا تتعدى 1%".

تملكت المخاوف قلبه، خاصة عندما علم، قبل مغادرته مستشفى الشفاء متجهًا إلى القدس، بوفاة مريض كان يمرّ بنفس ظروفه الصحية، بإصابة آخر خضع بشلل بعد إجراء عملية جراحية، ومع ذلك كان على قناعة بضرورة إجراء العملية، وقبل دخول غرفة العمليات قال للطبيب: "بدي أرجع أشوف يا دكتور".

عام 2011، أخبره طبيب في مستشفيات الداخل المحتل أن الورم لم يكن سرطانًا، وإنما التهابات شديدة سببت ضمورًا في العصب البصري، وأن علاجها كان ممكنًا لو تم تشخيص الحالة في بدايتها.

قال: "هذه اللحظات كان وقعها عليّ أصعب من لحظة فقداني للبصر، لكن سرعان ما قلت لنفسي إنني لا تواجهني أي مشكلة، ما أزال أستطيع التعبير عن نفسي، وقلبي ينبض بالحياة".

وأضاف: "الكثير بالنسبة لهم فقدان البصر أخف وطأة من الإصابة بالسرطان الذي يعني بالنسبة لهم الموت، ولكن بالنسبة لي العكس"، ولعل ذلك بسبب اعتماد حلمه على هذه النعمة، ولكنه أدرك فيها أن النظر "للمتعة فقط، ولرؤية الشيء جميلًا".

ولأن سرحان تمتع بنعمة البصر لعشرين سنة، فهو يعرف ما حوله جيدًا، وهذا ما سهّل عليه واقعه الجديد، حتى أنه يتمكن من وصف أشكال الناس من خلال تعامله، "لأني أتعامل مع نفسي على أنني إنسان مبصر لكل ما يدور حولي"، على حد قوله.

الإيمان بالموهبة أقوى

هذه الأوضاع الصحية التي مر بها جعلت حلمه يتراقص على الحبل كراقص باليه مبتدئ يوشك أن يقع، ولكن إيمانه بموهبته أقوى من ظروفه، حتى أنه يثق بأنه سيكون ممثلا مشهورا.

وبعد عامين من البحث عن علاج، عاد حلم إبراهيم الممثل والمخرج بقوة، وقعت بين يديه كلمات أوبريت غنائي لأشخاص من ذوي الإعاقة، فنال إعجابه وتم تسجيله، وقرر عرضه على المسرح في مركز القطان للطفل عام 2014.

قبل العرض بيوم واحد، أجرى "بروفا" للمشاركين في الأوبريت، ووجه لهم التعليمات اللازمة، وفي يوم العرض صعد على خشبة المسرح "شاهده بقدميه، ورسم صورة في خياله"، وساعده في ذلك عمله السابق في مجال التصميم، فرسم الجماليات الرئيسة في الصورة ووزع الممثلين، وأكد النقاط الأساسية فيما يتعلق بحركات الممثلين وتعبيرات وجوههم.

وفي أثناء أداء دوره في المسرحية التي تناولت الواقع المُعاش، انتبه إلى صوت بكاء الحضور، فأيقن حينها أنه قدم عملًا رائعًا.

وبعد انتهاء الحرب الأخيرة على قطاع غزة عام 2014، كان سرحان أول مخرج ينفذ عرضا فنيا متعلقا بالحرب، فقدّم مسرحية "زواج الدم"، كتب نصّها بمشاركة صديقه، إلى جانب مشاركته في التمثيل، وعمله كمخرج لهذا العمل.

وأوضح أنه لم يكن يعرف الإخراج بمصطلحاته وتوجيهاته، ولكن مخرجين حضروا المسرحية أُعجبوا بتوجيهاته السليمة.

وفي 2016 قدّم، في يوم الأسير الفلسطيني، مسرحية "حلم أسير"، لتجسيد معاناة الأسرى والحديث عن أحلامهم وحقهم في الحياة، وأتبعها بالمسلسل الإذاعي "حلاق الحارة"، الذي تناول قضايا اجتماعية، وكان بطل المسلسل ومخرجه.

قرر سرحان السفر إلى مصر لدراسة الإخراج المسرحي لتطوير موهبته، وكان يعتمد على الصوت في متابعة الأفلام، لكن أستاذه طلب منه تحليل فيلم صامت، فقدّم تحليلًا أذهل الجميع، بعدما استعان بصديقه لشرح مشاهد الفيلم.

كيف يكون مُخرجًا؟

لعلك عزيزي القارئ تسأل نفسك كيف خاض سرحان المجال السينمائي بكل جرأة؟ وكيف يتحكم بحركة الكاميرا؟ وكيف يختار الزاوية المطلوبة للتصوير؟ وماذا عن الممثل وحركته؟ الإجابة أنه يجد حلًّا لكل مشكلة تواجهه، فهو لا يعترف بالشهادة قدر اعترافه بالعمل على أرض الواقع.

ولأن الإخراج يحتاج لمعرفة بالتفاصيل الدقيقة، فإن سرحان يرسم في مخيلته صورة للمسرح، ويمثّل الحركة أمام الممثل ليقوم بتقليدها، ويتابع أداء الممثل بعد انتهاء المسرحية، فيسأل أحد الحضور عن دور الممثلين وكيفية أدائهم للحركات.

ونوه إلى أن الصوت يرشده إلى تعابير الوجه، أي أنه يستعيض عن نظره بحواسه الأخرى.

ثقته بنفسه أكبر من أي شيء آخر، فهو مقتنع تمامًا أنه سيصل إلى حلمه في الدخول إلى موسوعة "غينيس" كأول مخرج كفيف، ويسعى لتحقيق هذا الهدف من خلال عمل فني قصير يحمل رسالة إنسانية عن الشعب الفلسطيني، ولكن ما يعيقه هو حاجته للدعم ولمعدات تصل تكلفتها لثمانية آلاف دولار.

درس سرحان صناعة الأفلام السينمائية والمسلسلات التلفزيونية والتمثيل سينمائي، وقد توجه نحو الإخراج بسبب عدم إيمان المخرجين به كممثل، فأراد أن يكون مخرجًا لنفسه.

وفي كل المراحل، كان المحبطون حاضرين، فعلى حد قوله، منهم من افتعل له المشكلات، ومنهم من تعامل معه على أنه شخص غير مرحب به عند بعضهم.

يتحمل سرحان تكلفة بعض أعماله، معتمدًا على مخصصات "الشؤون الاجتماعية"، لا فغالبًا ما يستعين بممثلين مبتدئين، ويبذل جهدًا في تدريبهم.

ويسعى من وراء ذلك إلى رفع العلم الفلسطيني في المحافل الدولية، وتحقيق انتصار للشعب، وإيصال رسالة مفادها أن من بين ذوي الإعاقة أصحاب فكر وإبداع، وأن لا شيء مستحيل.

ويطمح سرحان للترشح لجائزة أوسكار، ويحلم، منذ بداية مشواره الفني، بإنشاء شركة للإنتاج الفني، ومؤسسة للثقافة والفنون لذوي الإعاقة، ليعمل على تدريبهم وعلى صناعة السينما بكل قوة.