فلسطين أون لاين

السابع من أكتوبر.. يوم الاجتياح الفلسطيني

أجزم أنه لم يكن ليدور في ذهن كاتب أشد سيناريوهات أفلام هوليود تعقيدا أن يتوقع أو يتخيل السيناريو الذي أفاق عليه العالم صباح السبت السابع من أكتوبر 2023. حيث شهدت الساعة 6:25 صباحا انطلاق آلاف الصواريخ من قطاع غزة باتجاه المواقع والبلدات الإسرائيلية داخل الخط الأخضر دفعةً واحدةً ودون مقدمات، ليتبين بعد أقل من نصف ساعة على بدء العملية أن إطلاق هذا الكم من الصواريخ والقذائف لم يكن أكثر من تغطيةٍ على عملية اجتياحٍ واسعةٍ لمقاتلي المقاومة الفلسطينية داخل الخط الأخضر، لتسقط مواقع ومستوطنات إسرائيلية عديدة في أيدي المقاتلين بشكل درامي غير مسبوق في عمليةٍ أطلق عليها (طوفان الأقصى)، وبالمقابل تعلن إسرائيل حالة الحرب لأول مرة منذ إعلان حالة الحرب صباح يوم السبت السادس من أكتوبر عام 1973، أي منذ نصف قرنٍ بالضبط.

المشاهد التي انتشرت على وسائل الإعلام ووسائل التواصل الاجتماعي كانت صادمةً ومفاجئة على كافة الصعد، فما جرى لم يكن تسللا لأنه لم يحدث سرا، بل كان اجتياحا حقيقيا وفي رابعة النهار. فأن ترى المسلحين الفلسطينيين يتجولون في شوارع المستوطنات التي أقيمت قبل 75 عاما، والتي كانت حتى يوم الجمعة تعتبر مواقع شديدة التحصين بالقبة الحديدية التي تحميها من الجو، لم يكن مشهدا مألوفا، ذلك أن الخطر فاجأ هذه المستوطنات من البر لا الجو هذه المرة، هذا عدا الهجوم البحري الذي لم تتضح معالمه حتى لحظة كتابة هذا المقال.

لا تزال الأحداث في بدايتها، ويبدو للناظر لتكتيك وحركة المقاومين الفلسطينيين أنهم لا يتعاملون مع عملية محدودة وإنما مع عملية كبرى ذات بعد إستراتيجي تم التخطيط لها بعناية. ويمكن في هذه المرحلة المبكرة قراءة الحدث في عدة نقاط:

فأول ما لفت الأنظار في هذا اليوم على جميع المستويات هو حجم المفاجأة التي لم تتمكن إسرائيل من إخفائها، وكان غياب المعلومات والتقديرات عن حكومة الاحتلال وأجهزتها الأمنية دلالة فشل استخباري غير مسبوق، وبدا ذلك واضحا في غياب أي رد فعلٍ إسرائيلي على الاجتياح الفلسطيني لمدة 4 ساعات كاملة فصلت بين بداية العملية وأولِ طلعةٍ جويةٍ إسرائيلية ضد قطاع غزة ردا على الهجوم الفلسطيني. فحتى في حرب عام 1973 التي شكلت وقتها مفاجأة لإسرائيل.

تبيَّن في بعض الوثائق الإسرائيلية المفرج عنها مؤخرا أن سيناريو الحرب كان مطروحا على طاولة حكومة غولدا مائير في ذلك العام، لولا أن تقديرات المؤسسة العسكرية والأمنية في ذلك الوقت استبعدت حدوث الهجوم فعليا. أما هذه المرة، فإن المعلومات كانت غائبةً تماما عن المستوى الأمني الإسرائيلي كما يبدو، مما شلَّ إسرائيل ومنعها من إبداء أي رد فعلٍ لعدة ساعات ريثما استوعبت جزئيا ما كان يجري على الأرض. وحتى عندما بدأ نتنياهو يستفيق من الصدمة ليعلن عن اجتماعات على المستوى الأمني والحكومي لدراسة ما يجري، فإنه أعلن أن اجتماع الحكومة الأمنية المصغرة سيعقد الساعة الواحدة بعد الظهر، أي بعد سبع ساعات كاملة من بدء العملية، وهذا البطء الشديد غير المعهود يشير إلى عدم وجود أدنى استعداد لديه للتعامل مع هذا السيناريو. كما أن حجم الدمار الواسع الذي تسببت به الرشقات الأولى من الصواريخ والقذائف طرح تساؤلات حول جاهزية منظومة القبة الحديدية للتعامل مع عملية بهذا الحجم.

كما أن توقيت العملية بحد ذاته شكل إذلالا لإسرائيل، فقد أتى في اليوم الأخير من موسم عيد العُرش، أي في خضم استنفارٍ عالٍ لدى قوات الجيش والشرطة الإسرائيلية استمر 22 يوما لتأمين موسم رأس العام العبري والغفران والعُرش، وتزامن مع تصعيد عال في الضفة الغربية والقدس تحسبا من أي عملياتٍ، وكان يفترض أن عملية الاستنفار والإغلاق مستمرة حتى يوم الأحد الثامن من شهر أكتوبر. وكان التركيز الإسرائيلي في هذا الاستنفار متعلقا بالضفة والقدس ومتراخيا مع الجبهة الجنوبية في غزة، وذلك كرد فعلٍ على تصعيد المقاومة المسلحة في الضفة.

تضفي هذه الظروف أهمية خاصة على عملية الاجتياح، فلا يمكن تجاهل ما يجري في القدس والمسجد الأقصى المبارك على مدى أكثر من سنة ونصف منذ مايو 2022. إذ إن الاستهداف الإسرائيلي للمسجد الأقصى المبارك (الذي أدى إلى حرب عام 2021) وصل خلال العام الماضي وهذا العام إلى مستويات لا سابق لها من العنجهية التي أظهرها وزير الأمن القومي الإسرائيلي المتطرف إيتمار بن غفير وتياره، ليصل الأمر إلى اقتراح اقتطاع أجزاء من المسجد الأقصى لصالح الجماعات الدينية المتطرفة. كما أن ذلك ترافق مع هجمة عاتية للمستوطنين على مواطني الضفة الغربية برعاية وزير المالية الإسرائيلية المتطرف بتسلائيل سموتريتش.

هذه الهجمة بدأت تظهر آثارها في مناطق شمال الضفة الغربية التي يعربد فيها جيش الاحتلال يوميا دخولا وخروجا من جنين وطولكرم ونابلس ومخيماتها مخلفا الضحايا الفلسطينيين، دون أي رد فعلٍ من السلطة الفلسطينية التي تحرص على منع أي نشاطٍ ضد جنود الاحتلال الإسرائيلي، أو رد فعلٍ على مستوى قطاع غزة، وهو ما أشعر الجيش الإسرائيلي بالارتياح النسبي، ويبدو أن عملية التضليل الواسعة التي قامت بها المقاومة على مدى الأسابيع الماضية نجحت في تعزيز حالة استرخاء الجيش الإسرائيلي خاصةً على الجبهة الجنوبية، حيث حرصت الفصائل الفلسطينية على عدم الدخول في مواجهة واسعةٍ مع إسرائيل واتجهت لدعم مظاهرات الجدار الحدودي ذات الطابع الشعبي بدلا من ذلك.

خروج المقاومة عن نطاق العمل العسكري المحدود ضد السياج الأمني الإسرائيلي إلى اجتياح المناطق كافةً والسيطرة الفعلية على قرى ومدن محيطة بالقطاع وعلى هذا المدى الواسع يقلب معادلة الردع بشكل كامل في المنطقة. فانهيار منظومة الردع الإسرائيلية بهذا الشكل الدرامي يدل على خلل عميق في بنية هذه المنظومة، وهي وإن كانت منظومةً ذات سمعةٍ عالميةٍ إلا أنها -على الأقل فيما يظهر حاليا- لم تكن بتلك القوة التي أشاعتها عنها إسرائيل- وهذا يفتح الباب واسعا أمام تساؤلات عن بنية المشروع الإسرائيلي العسكري والأمني برمته، إذ لا يملك المتابع البسيط إلا أن يتساءل عن ما إذا كانت إسرائيل بتلك القوة التي يصورها بها الإعلام العالمي بالفعل.

مجرد طرح هذا التساؤل يعتبر بحد ذاته خطرا وجوديا على إسرائيل، فمنظومة الردع الإسرائيلية تقوم أساسا على الصورة الإعلامية التي عملت إسرائيل طوال خمسة وسبعين عاما على بنائها والحفاظ عليها، وهو المفتاح الذي قامت عليه فكرة اتفاقيات التطبيع مع إسرائيل، وذلك على اعتبار أن إسرائيل أمر واقع وقوة كبرى تحاول بعض الأنظمة السياسية الاستعانة بها لحماية نفسها، فإذا تعرّت هذه الصورة الأسطورية لإسرائيل بهذه البساطة فإن اتفاقيات التطبيع معها، سواء الحالية أو القادمة، تفقد مبرراتها.

كما أن إطلاق عملية عسكرية إستراتيجية بهذا الحجم والشكل لابد أن يكون له آثار مهمة متوقعة على المدى القريب والمتوسط. فلا يتوقع أن يكون لدى المقاومة الفلسطينية أهداف من هذه العملية في الأفق أقل من إلزام إسرائيل بإيقاف الاعتداءات على المسجد الأقصى المبارك باعتبار أن ما حدث فيه كان الصاعق المباشر المفجر للأحداث قبيل بدء عملية الاجتياح.

كما أن وقوع عدد كبير من الأسرى الإسرائيليين الأحياء في قبضة المقاومة لابد منطقيا أن يستخدم لإطلاق سراح الأسرى الفلسطينيين في صفقات محتملة تختلف تماما عن ما سبقها. وهذا ما يفسر حرص المقاومة على نشر صور الأسرى وهم أحياء باستمرار في هذه المرحلة، بحيث تمنع إسرائيل من تجاهلهم كما فعلت مع الأسرى الموجودين لدى المقاومة منذ سنوات. وبالإضافة إلى ذلك، فإن هذه العملية تعتبر فرصة ذهبية لإجبار إسرائيل على فك الحصار عن غزة خوفا من اضطرار إسرائيل للدخول في حرب مفتوحة لا يمكنها تحملها.

لا تملك إسرائيل الكثير من الخيارات في مواجهة هذه العملية، فالفرص أمامها للتعامل مع نتائج هذه المفاجأة تتضاءل مع مرور مزيد من الوقت، والمتفق عليه هو أن فكرة الردع الإسرائيلي التي تحطمت صباح السبت لا يمكن ترميمها بشكل كامل بعد هذه الهزيمة المذلة، فإسرائيل لم يسبق لها أن تعاملت مع هذا المستوى من الخطر الذي لا يمكنها أن تسميه خارجيا لأنه في قلب أراضي 48 لا خارج الحدود. كما أن احتمال امتداد المواجهة لتعم الأراضي الفلسطينية وربما بعض الجبهات الحدودية يبقى أمرا غير مستبعد مع وصول الضغط النفسي في القدس -وهي الخاصرة الأضعف لإسرائيل- والضفة الغربية إلى الذروة، إضافةً إلى إرهاصات الصدامات العسكرية مع الاحتلال في الضفة، بما يمكن أن يؤدي إلى حرب شوارع مفتوحة في مناطق الضفة الغربية، وهذا الأمر إن حدث وامتد فإنه سيشل قدرة إسرائيل على التعامل مع الحدث، وذلك لاتساع رقعة المواجهة.

النتيجة التي نصل إليها في خضم هذه الظروف هي أن المشروع الإسرائيلي برمته بات اليوم على المحك، ولا أظن أن إسرائيل يمكنها أن تجد مخرجا بسهولة، وبغض النظر عن النتيجة النهائية لهذه العملية، فإن أول ضحيةٍ لها سيكون بلا شك ثلاثة أسماء: نتنياهو، بن غفير وسموتريتش.
 

المصدر / الجزيرة نت