يثقل الحمل يومًا بعد يوم على كاهل الحاجة مريم عويس بعد أن التحق أحفادها بقوائم المستهدفين من الاحتلال الإسرائيلي بالقتل والاعتقال والإصابة، إذ قدَّمت من أبنائها شهداء وأسرى ذوي المحكوميات العالية، كما ذاق بقية أبنائها مرارة الاعتقال والمطاردة، ورغم كل ذلك فإن حلمها بأنْ تحتضن ابنيْها الأسيرين هو الأمل الذي تعيش عليه.
بدأت معاناة "عويس" منذ اقترانها بزوجها "راتب" الذي كان مناضلًا في صفوف حركة "فتح" في لبنان وأرض الوطن، ما عرَّضها لفقدان بيتها الذي هدمه الاحتلال الإسرائيلي في السبعينات من القرن الماضي.
وعندما كبر أبناؤها لم يكن طريقهم مختلفًا عن طريق والدهم من قبل، لتصبح زائرةً دائمًا لسجون الاحتلال، لترى أبناءها الذين يُعتقلون واحدًا تلو الآخر منذ أن بلغوا مرحلة الشباب، وأحيانًا أكثر من واحدٍ منهم في الوقت ذاته.
ولكن الاعتقالات المتفرقة لم تكن مؤلمة لـ"عويس" مثل ألم الاعتقال الطويل الذي ما زال يرتع تحت قيده ابناها عبد الكريم وحسان منذ عام 2002م، إذ يقضيان محكومية بالسجن عدة مؤبدات، "لقد كبر أبناؤهما ولم يكونا معهم في أيٍ من المراحل المهمة في حياتهم".
قبيل اعتقال عبد الكريم وحسان، فقدت الحاجة عويس ابنها سامر شهيدًا في إثر قصف طائرات الأباتشي الإسرائيلية له على مدخل مخيم الأمعري في رام الله، أما عبد الكريم وحسان فاعتُقلا بعد رحلة مطاردة طويلة، في حين أن ابنها أحمد مطاردٌ حتى اللحظة.
اقرأ أيضًا: تقرير 21 عامًا.. وقلب الحاجة مريم يكابد مرارة الشوق والحرمان
انتقام من العائلة
ترك عبد الكريم وراءه ثلاثة من الأبناء، أكبرهم نجيب الذي كان يبلغ من العمر حينها أربع سنوات، وكانت زوجته حاملًا بابنه "سامر" الذي هو اليوم مع والده في السجن نفسه، وقد اجتمع به في زنزانة واحدة (معتقلٌ منذ خمس سنوات)، أما ابنه "راتب" فمطارد للاحتلال حتى هذه اللحظة.
فلم تكد الحاجة عويس تستفق من ألم اعتقال عبد الكريم حتى أصبح القلق يأكل قلبها على أبنائه الذين هم الآن بين أسير ومطارد. أما حسان فقد كبر طفلاه، فابنته رشا تدرس الماجستير حاليًا، وكذلك أصبح شادي، "أصبحا شابَّين دون أن يحظيا بالعيش ولو قليلًا مع والدهم".
فقدت الحاجة عويس منزلها مرتينْ أخرييْن، الأولى عندما هدمه الاحتلال انتقامًا من العائلة بعدما اعتُقل عبد الكريم في إثر نجاته من محاولة اغتيال نفذتها طائرات الاحتلال بقصف السيارة التي كانت تقله، والثانية بعد خوضه اشتباكًا طويلًا مع ثلاثين من المقاومين ضد قوات الاحتلال.
أما معاناة ابنها الأكبر بشار وعائلته فقد آثر أن يرويها هو لنا، فـ"بشار" ذاق مرارة السجن لست سنوات على مرتين، اجتمع في إحداها مع شقيقيْه، لذلك فإنه قلقٌ عليهما دائمًا لإدراكه صعوبة ظروف السجن.
وما زاد قلقه أن الاحتلال سحب منه تصريح الزيارة لهما وفرض عليه منعًا أمنيًا بعد أن استشهد ابنه محمد في إثر اغتيال الاحتلال له بقصف من الطائرات على معبر الجلمة في يونيو من العام الحالي في سيناريو أعاد للأذهان لحظة اغتيال عمه "سامر" قبل عشرين عامًا.
ولم تقف معاناة "بشار" عند هذا الحد فابنه سامر "16 عامًا" مصاب بإصابة خطيرة إثر إصابته بقصف الاحتلال لمخيم جنين الأسبوع الفائت، "أصيب في جميع أنحاء جسده خاصة قدميه اللتين تفتّتت عظامهما، كما أصيب في الحادث ذاته ابن شقيقتي سامح سحويل "28 عامًا"".
ويقول بشار بأسى: "معاناتي اليوم كبيرة بفقد ابني وعدم قدرتي على استعادة جثمانه من براثن الاحتلال وقضائه الظالم، وإصابة ابني الآخر الذي هو حاليًا بين الحياة والموت، وحرماني من زيارة شقيقايْ التي كنتُ أجد فيها دعمًا نفسيًا كبيرًا لهما في ظل ما يعانياه".
ويستمد "بشار" صبره وثباته من عزيمة والدته التي لم تضعف يومًا رغم كل ما قدمته أسرتها من تضحيات وفقدانها الأبناء والأحفاد، ومرارة الاعتقالات والمطاردة وهدم البيوت، لكنها بقيت واقفة على قدميها، تتجشم الصعاب لكي تصل إلى ابنيْها عبد الكريم وحسان في معتقلهما وترفع معنوياتهما.
ويضيف: "رغم أن والدي صامدٌ وصابرٌ أيضًا لكن وضعه الصحي لا يسمح له بزيارة أشقائي، أما والدتي فلا تُفوِّت أي زيارة مهما كان التعب يسيطر عليها، كل أملها في الحياة أن تحتضنهما وهما حران طليقان، وأن تُتوِّج ذلك بوداع جثمان حفيدها محمد وانتزاعه من "مقابر الأرقام" الإسرائيلية ليكون له قبرٌ بجانبها يمكنها أن تزوره".