نعيش الذكرى الـ23 للانتفاضة الثانية، التي اندلعت في إثر اقتحام رئيس وزراء الاحتلال الإسرائيلي السابق، أرئيل شارون، باحات المسجد الأقصى المبارك برفقة نحو ألفي جندي في 27 سبتمبر/ أيلول 2000، وقال حينها إن الحرم القدسي سيبقى منطقة إسرائيلية، وقد هب المصلون الموجودون داخله للتصدي للقوات الإسرائيلية، وقد أدى ذلك إلى استشهاد سبعة فلسطينيين وإصابة 250 آخرين بجروح.
لم يتوقف الأمر عند هذا الحد، بل توسع لهيب الغضب الشعبي، وأدى إلى انفجار انتفاضة شعبية عمت كل الأراضي الفلسطينية المحتلة، وأصبح الاحتلال في وضع لا يُحسد عليه، ولم ينجح بكل منظوماته الأمنية والعسكرية في محاصرة تمدد الانتفاضة الفلسطينية وتوسعها، لتعيد للذاكرة أمجاد الانتفاضة الأولى في عام 1987، التي انطلقت شرارتها من مخيم جباليا، وعلى الرغم من الاختلاف بين الانتفاضتين، فإن هناك تشابهًا في الظروف، وأهمها اتساع المشاركة الشعبية أو الفصائلية، لكن قد تختلف الانتفاضتان من حيث طبيعة أدواتهما النضالية، فقد غلب على الانتفاضة الثانية طابع العسكرة، التي سرعان ما تحولت إلى انتفاضة مسلحة، وما حدث من تنامي ظاهرة إطلاق النار على المواقع الإسرائيلية على امتداد الضفة الغربية وقطاع غزة اعتبر مؤشراً حقيقياً على اتساع دائرة المشاركة الفلسطينية في الانتفاضة.
لقد شكل تطور الانتفاضة الثانية قلقاً حقيقياً للاحتلال، لما تكبده من خسائر كبيرة في الأرواح والمعدات، وأن كل ما قام به من اجتياحات لمدن وقرى في الضفة والقطاع خلال الانتفاضة الثانية، مثل: عملية "الدرع الواقي" و"أمطار الصيف" وغيرهما من الخطط العسكرية الإسرائيلية، بهدف القضاء على الانتفاضة التي زلزلت الأرض من تحت أقدام الاحتلال ودفّعته ثمنا باهظا لاقتحام الأقصى، لكنه فشل فشلاً ذريعاً في محاولة القضاء عليها. صحيح أن عدد الشهداء كان كبيراً، وبحسب “البيان” وصل إلى 4412 شهيداً و48322 جريحاً، وأما خسائر جيش الاحتلال الإسرائيلي فقد بلغت 334 قتيلاً ومن المستوطنين 735 قتيلًا ليصبح مجموع القتلى والجرحى الإسرائيليين 1069 قتيلا و4500 جريح وعطب 50 دبابة من نوع "ميركافا" وتدمير عدد من الجيبات العسكرية والمدرعات الإسرائيلية.
إن القدس المحتلة والمسجد الأقصى المبارك يمثلان للفلسطينيين عنوان كل معركة مع الاحتلال، كان آخرها التصعيد الذي رافق محاولات المستوطنين لاقتحام المسجد في شهر رمضان عام 2021 ودارت في إثرها معركة “سيف القدس”، التي لا تزال آثار الهزيمة “معششة” في عقول وأذهان قادة الاحتلال، لما أصابهم من أضرار ودمار بفعل صواريخ المقاومة الفلسطينية في غزة، وبعدها تلقيهم ضربة موجعة من معركة وحدة الساحات، وما تشهده اليوم الضفة الغربية من مقاومة ضارية بوجهيها الفصائلية وغير الفصائلية، تأكيداً على فشل الاحتلال أمنياً وعسكرياً في الضفة، إذ لم يعد العمل العسكري يقتصر على الفصائل الفلسطينية وأذرعها العسكرية فقط، بل تشكلت حالة نضال شعبي “فردية المزاج” لمقاومة الاحتلال والمستوطنين، قد تكون بروفات ميدانية، تتصاعد شيئا فشيئا لتؤسس لانفجار كبير قد لا تُحمد عقباه، وهنا يعلق المراسل العسكري في "القناة 13" الإسرائيلية، ألون بن دافيد، على ما يحدث في الضفة خلال الأشهر الأخيرة بقوله: "إنها انتفاضة من نوع آخر تختلف عما شهدناه في الثمانينيات وعام 2000"، ولكن هذه الانتفاضة، بحسب تقديرات الأمن الإسرائيلي، استطاعت توفير البيئة الحاضنة التي تسهل انخراط الشباب الفلسطيني في العمل المقاوم العسكري بشكل واسع، الأمر الذي خلق شكلاً جديداً لطبيعة العمليات الفدائية المرتكزة على الفدائي غير المرتبط بهياكل تنظيمية تقليدية على غرار ما كان في انتفاضة الأقصى.
الاحتلال لم يتعلم من دروس الانتفاضتين السابقتين (1987 - 2000)، فالعوامل ذاتها ما تزال قائمة، وقد يؤدي ذلك إلى اندلاع انتفاضة ثالثة شبيهة لهما سوف تحرق الأخضر واليابس، بسبب ممارسات الاحتلال القمعية، التي لا تزال على حالها، وتزداد كل يوم سوءاً، فمن سياسات التوسع الاستيطاني، إلى تقطيع الأراضي الفلسطينية وتحويلها إلى معازل، وتسهيل هجوم غلاة المستوطنين على القرى العربية وإحراق المنازل والسيارات والاعتداء على المواطنين بحماية جيش الاحتلال، إضافة إلى الاقتحامات المتواصلة للمسجد الأقصى المبارك والضغط على المقدسيين، وسياسات هدم المنازل وحرق المزارع، إلى عمليات الاعتقالات والقتل الممنهج، إلى تحويل حياة الناس إلى جحيم على مئات الحواجز الإسرائيلية المنتشرة في الضفة الغربية بشكل عام، كل هذه الأسباب ستؤدي آجلاً أو عاجلاً إلى انفجار شعبي لا محالة.