هيمنت مقابلة وليّ العهد السعودي مع قناة "فوكس نيوز" على اهتمامات الأوساط السياسية والإعلامية في عواصم الإقليم والعالم ذات الصلة، وكادت أن تطغى (وتغطي) على أخبار أسوأ كارثتين طبيعيتين في المغرب وليبيا، وعلى خبر تَجَدد القتال في ناغورنو كاراباخ، وزيارةٍ غير مسبوقة منذ عقدين قام بها الرئيس السوري للصين، وزيارة لا تقل أهمية في دلالاتها قام بها وفد من حركة أنصار الله للمملكة العربية السعودية.
حديث التطبيع السعودي مع (إسرائيل) والجهود التي تبذلها إدارة بايدن لإتمام "صفقة القرن 2" كانت محور التعليقات والتغطيات، لا لجديد قاله محمد بن سلمان، بل لأن رجل المملكة الأقوى هو من قال ويقول هذه المرة، فنحن نعرف أن محادثات التطبيع بدأت منذ عدة أشهر، سراً وعلانية، ولم "نشتر" حكاية وقفها التي سربتها وسيلة الإعلام السعودية "إيلاف" ونفتها في اليوم ذاته كل من واشنطن و"تل أبيب"، كما أن إدخال الملف الفلسطيني في صلب صفقة التطبيع عُّدَ حركةً سعودية ذكية قوبلت بترحيب حذر من واشنطن وقلق وتحسب في (إسرائيل) وقد أتيحت لنا فرصة عرض كل هذه التقديرات على "مسائية الميادين" الأحد الفائت.
ابن سلمان ينطلق من فرضية أن (إسرائيل) باتت "حقيقة من حقائق الشرق الأوسط"، وأن بمقدورها القيام بدور "لاعب" في الإقليم، وأن تطبيع العلاقات معها يدخل من باب تحصيل الحاصل، وأن النقاش لم يعد يدور حول "أن نطبع أو لا نطبع"، بل الثمن الذي يتعين تقاضيه لقاء هذه الخطوة، وكيف يمكن إنجاز الصفقة، وكيف يمكن إدارتها، وأين يرتسم "الخط النهائي" لهذه "اللعبة"، خصوصاً حين يكون "اللاعب" هذه المرة بوزن السعودية وحجمها.
وليّ العهد تولى شخصيًا نفي خبر "إيلاف" الذي أثار ضجة كبيرة وتفاعلات واسعة، وأكد أن المفاوضات "مستمرة وجيدة"، وقال إن كل يوم يمضي تقترب بلاده من تطبيع علاقاتها مع (إسرائيل) من دون أن يسهو عن القول إن القضية الفلسطينية "مهمة جدًا"، كما قال حرفيًا، مستطردًا بأنه يريد توفير "حياة جيدة للفلسطينيين"، قبل أن يدركه الصباح ويتوقف عن الكلام المباح، فلم يأتِ على ذكر مبادرة "السلام" العربية، ولا "حل الدولتين"، ولم يكرر الموقف السعودي التقليدي عن الدولة المستقلة وعاصمتها القدس.
اقرأ أيضًا: التطبيع: لماذا لا يُستفتى الشعب الفلسطيني؟
اقرأ أيضًا: مطالب الأطراف المتناقضة من التطبيع السعودي مع الاحتلال
في هذه التصريحات، ثمة ما يوجب القلق ويبعث عليه، فاللغة المتفائلة التي استخدمها الأمير السعودي لا تنسجم مع طبيعة الحكومة والائتلاف القائمين في "إسرائيل"، وتأتي خارج سياق الانهيار المتسارع لما تبقى من "عملية سياسية" ومسار "حل الدولتين".
إنها لغة متفائلة ترسم لـ(إسرائيل) دور "اللاعب" في الإقليم، وهي في ذروة انفلاتها العدواني –العنصري– التوسعي – الفاشي، حتى إن الرجل لم يترك هامشًا للقول إن على (إسرائيل) أن تفعل كذا وكذا أو يتحسب لقيام القوى الفاشية في الحكومة بتخريب هذه المفاوضات وتعطيل هذا المسار.
المفاوضات مستمرة وجيدة، ونحن نقترب يومًا إثر يوم من التطبيع. هكذا تحدث ابن سلمان؛ فإما أنه أراد أن يبعث برسائل إلى واشنطن، إدارة ومؤسسات صنع قرار وجماعات ضغط، مستخدمًا منصة "فوكس نيوز"، من ضمن حملة علاقات عامة وسعيًا لـ"تلميع الصورة"، وإما أن "وراء الأكمة ما وراءها"، وأن محادثات التطبيع قطعت فعلياً شوطاً كبيراً، وأن ما يظهر منها على السطح ليس سوى قمة جبل الجليد.
في ظني، وليس كل الظن إثمًا، أن الاحتمال المرجح هو أن الأمير باختياره محطة أميركية يمينية محافظة للتحدث معها باللغة الإنكليزية (بدلًا من العربية كما كان مقررًا)، ومن "نيوم" بدلًا من الرياض (كما كان مقررًا)، إنما أراد تقديم صورته وصورة المملكة الجديدتين للولايات المتحدة والعالم بعد سنوات من العزلة أملتها مغامرتا اليمن وقطر وجريمة اغتيال جمال خاشقجي.
لكن "النفس التصالحي" في المقابلة (مع "إسرائيل" بالطبع) لا يمكن إدراجه في باب المجاملة بقدر ما يمكن عدّهُ تعبيراً عن الاستعداد للقبول بالتطبيع بثمن أقل من ذاك الذي استبطنته وكشفت عنه مبادرة "السلام" العربية (السعودية أصلاً).