كل يوم صباحًا تراقب الطفلة التي لم تتجاوز خمسة أعوام أباها وهو يسحب فردة "بسطاره" من تحت السرير، ويترك الفردة الأخرى، تكرار المشهد أثار الفضول في عقل الطفلة، حتى جاء اليوم الذي غادر فيه أبوها البيت متجهًا إلى عمله، وسحبت فردة حذائه المتبقية، ووضعت بها كلتا قدميها.
صارت الطفلة تقفز وهي تلبس فردة الحذاء سعيدة بأنها خاضت هذه التجربة، في صباح أحد الأيام أسرعت نحو أبيها واحتضنت ما تبقى من ساقه المبتورة في إحدى الحروب، تنظر إليه بحزن "بابا إذا أخذوا رجلك، أنا رجلك التانية".
عكازة أبيها
هذا المشهد رسمه المخرج أحمد حمد من بيت لحم، في فيلمه "عكازتي" الذي يمتد لثلاث دقائق، و12 ثانية، يلامس القلوب فيه، والمشاعر، ويسلط الضوء على كل جرح غائر في قلب الأطفال الذين يعيشون في مناطق صراعات، وحروب.
وفي الخامس عشر من سبتمبر الجاري استطاع المخرج حمد الذي يعمل في مجال التصوير السينمائي، والدعائي انتزاع جائزة لجنة التحكيم بمهرجان الداخلية السينمائي الدولي في نسخته الثانية، الذي نظمته الجمعية العُمانية للسينما، بمشاركة 146 فيلمًا من 21 دولة.
ولفيلم "عكازتي" قصة يرويها المخرج حمد: "في أحد الأيام أثناء تصفحي أحد منصات التواصل الاجتماعي شدتني صورة طفلة تحمل ساق أبيها المبتورة، ووردة، قررت منذ تلك اللحظة أن أصنع فيلمًا تدور فكرته حول هذه الصورة".
ويتابع حمد لـ “فلسطين"، "مرّ شريط ذكرياتي أمامي، منذ وعيت على هذه الحياة وأنا أعيش الحروب، والصراعات، ولحظاتها المروعة حاضرة في مخيلتي دائمًا، كبرت ولا يزال الأطفال يقعون ضحية لحروب الدول، والجهات المتناحرة، وكمخرج فلسطيني لا أستطيع الابتعاد عن الرسالة الإنسانية التي أحملها، وأحاول جهدي إيصالها لكل العالم".
ويبين أن أحداث الفيلم تدور حول طفلة تعيش في هدوء في غرفتها، وبين ألعابها، سرعان ما يتحول إلى صمود في ضجيج خارجي، وهي تمثل جميع الأطفال الذين يعيشون في مناطق صراعات حول العالم.
عند الجدار
ومثلّت دور الطفلة بيروت رمضان (5 أعوام)، والشاب يوسف الكرنز الذي يعاني بترًا في ساقه، ومشاهد التصوير كانت في بيت هدمه الاحتلال سابقًا بالقرب من جدار الفصل العنصري، وما بين اختيار الفكرة، وكتاب السيناريو، واختيار الممثلين، وتدريبهم، وتصوير المشاهد، وإخراجها قضى شهرين كاملين ليصبح فيلم "عكازتي" جاهزًا.
ويثير الفيلم العديد من التساؤلات عن ذنب الأطفال في أن يكونوا ضحايا لأخطاء اقترفتها دول كبيرة، وتبيان الأثر النفسي الذي يرافق الطفلة كلما رأت ما لحق بأفراد عائلتها من أذى جسدي، ونفسي.
وواجه حمد صعوبات عند تصوير الفيلم، وهي عدم تمكنه من استخدام طائرة "الدرون" في تصوير مشاهد اللقطة الأخيرة من أعلى، والتي تلخص كل قصة الفيلم، خوف مصادرتها من الاحتلال، واعتقاله لأنه يصور مشاهد بالقرب من جدار الفصل العنصري، إضافة إلى ملل الطفلة، وتعبها لأنها تبذل مجهودًا يفوق طاقتها، ولكنه في النهاية استطاع تذليلها، حتى خرج بفيلم نافس عشرات الأفلام، وفق قوله.
ويوضح أن الفيلم صامت، ولكن أحداثه لامست قلب لجنة التحكيم، ولامست مشاعر كل من شاهده، واستطاع توصيل رسالة فيلمه بالدعوة للكف عن الحروب، والدمار، حتى يحيا الأطفال بكرامة العيش، والحرية.
ولدى سؤاله عن كيفية اختياره لعنوان فيلمه "عكازتي"، يجيب: "من تصرف الطفلة اللاشعوري لاحتضان ساق أبيها المبتورة، ورغبتها في أن تكون عكاز أبيها الذي سيكمل، ويتخطى به مصاعب، ونوائب الدهر".
ويوجه رسالة لكل شاب فلسطيني لديه طموح، وشغف، وحلم: " لا تنتظر من أي أحد لكي يساعدك على تحقيق حلمك، طور من نفسك، واكتسب مهارات جديدة، وامضِ في تحقيق حلمك، وادعم نفسك بنفسك، دع الصورة، والفيلم تحكي عن مشاعرك، وأفكارك".
وفيلم "عكازتي" لم يكن الإنجاز الأول الذي استحق حمد عليه جائزة، فسبق وأن فاز فيلمه "بدي أعيش" بالمرتبة الأولى في مهرجان "سوس" للأفلام الوثائقية الذي عقد في المغرب في العام 2014م.