فلسطين أون لاين

بركة العنزية.. مَعلَم عبَّاسي ومحطة للتأمل التاريخي والتعلم والترفيه

...
بركة العنزية.. مَعلَم عبَّاسي ومحطة للتأمل التاريخي والتعلم والترفيه
الناصرة-غزة/ هدى الدلو:

في قلب مدينة الرملة الجميلة، تتجه أعين الزائرين نحو موقعٍ تاريخي فريد من نوعه، يروي قصة تلاحم بين الحضارة والمهارة الهندسية.

إنها بِركة العنزية، ذلك المعلم العباسي البديع الذي يتألق بفخامة تصميمه وتاريخه العريق، يمتزج فيه الجمال مع المتانة، والفن بالعمق التاريخي. 

بنيت بركة العنزية في عام 789 ميلادية، في أثناء حكم الخليفة هارون الرشيد في عهد الدولة العباسية، لغرض أن تكون خزان ماء إستراتيجي للدولة، إذ كانت جزءًا من مشروع تطوير مدينة الرملة، لتصبح عاصمة للخلافة الإسلامية، كما يبين مدير إدارة المواقع الأثرية في وزارة السياحة عبد الرحيم عواد.

مقاومة الزمن والتحديات

ويقول عواد: "شيدت البركة بطريقة هندسية مدروسة، جمعت بين القوة والمتانة والجمال، وقد أظهر بنّاؤها قدرة العمارة الإسلامية في ذلك الوقت على إيجاد حلول لمواجهة الظروف البيئية والجغرافية، ما جعلها تحتفظ بجمالها حتى هذا الوقت دون أي تغيرات".

ويضيف: "بفضل التصميم المبتكر استطاعت بركة العنزية الحفاظ على جمالها وروعتها عبر العصور، دون أن يلحق بها أي تلف بفعل عوامل الزمن"، مشيرًا إلى أن البركة تتواجد تحت الأرض، مقابل الجامع الأبيض المحتفظ بمئذنته الأموية، وهي المئذنة الوحيدة الباقية من العمارة الإسلامية.

ويبين عواد أن البركة ذات أبعاد هائلة، إذ يبلغ طولها 21.17 مترًا وعرضها 19.82 مترًا، وارتفاعها يصل إلى 9 أمتار، فتبلغ مساحتها ما يقارب 500 متر مربع، وتحفظ بداخلها قصةً تروي تلاحمًا بين الفن والتصميم الهندسي الرائع، "فهي تعد أحد أهم تجمعات الماء في المدينة، جلبت إليها المياه من منطقة تل أبو شوشة شرقي الرملة، لتُخزن داخل هذا التجمع المائي الضخم".

ويمضي عواد بالقول: إن البركة مثَّلت في ذلك الوقت إنجازًا حداثيًّا عصريًّا، "وهي تجسيد لقوة وتقدم العمارة الإسلامية، حيث دمجت بين الهندسة المتقنة والتصميم الجمالي".

وعبر أكثر من ألفي عام، تجاوزت هذه البنية العمرية هزات الأرض والتغيرات المناخية، لتظل شاهدًا حيًّا على إرث العمارة العباسية، ورمزًا لتفوقها في الهندسة المعمارية، "فعلى الرغم من محاولات الاحتلال الإسرائيلي للتلاعب بالتراث الفلسطيني، بقيت بركة العنزية تشهد على قوة التراث والثقافة الإسلامية للأرض الفلسطينية، بالنقوش والأثر التاريخي".

ويردف عواد بالقول: "يرفض هذا المعلم السماح للتغييرات الجيوسياسية بمحو تاريخ المكان، تحمل بركة العنزية رسالةً لا تقاوم، تعبّر عن تمسك الشعب الفلسطيني بجذوره وإرثه الحضاري".

جاذبية سياحية

وتعود تسمية البركة بـ"العنزية" إلى المياه الجوفية التي كانت تروي الماشية والماعز في الماضي، كما يبين مدير إدارة المواقع الأثرية، مشيرًا إلى أن بعض المراجع ذكرت أن البركة أيضًا تحمل أسماء أخرى، مثل بركة الخيزران، وذلك تيمنًا باسم والدة الخليفة هارون الرشيد، التي كانت تنفق أموالها في أعمال البر والعمران.

وكذلك سُميت "ببركة هيلانة"، وذلك باعتقاد من الصليبيين أن الإمبراطورة هيلانة هي التي أمرت ببنائها وإقامتها، وبركة "الأقواس" لكونها تتكون من مجموعة من الأقواس والأعمدة التي تحمل سقفها التي يبلغ عددها خمسة عشر عمودًا.

إضافة إلى مكانتها التاريخية، أصبحت بركة العنزية مقصدًا سياحيًّا مُحببًا للزوار الفلسطينيين والعالميين، ويمكن للزوار الاستمتاع بجمال البركة واستكشافها بالقوارب، تجسيدًا للتراث والحاضر، وتبقى بركة العنزية محطة للتأمل والتعلم والترفيه.

ويلفت عواد إلى أن البركة خضعت لترميمات في زمن الاحتلال البريطاني لفلسطين، وفي عام 1960 قامت بلدية الرملة المحتلة بتنظيف البركة، وحوّلتها إلى موقع سياحي وأعادت ملأها بالماء، ووضعت فيها القوارب، وباتت موقعًا سياحيًّا يجذب الزوار المحليين والسياح، إذ يستطيع المرء أن يدخل إلى هذا القبو عبر عدة درجات، ويتاح له فرصة عبور المياه بالقوارب.

ويذكر أن سلطات الاحتلال الإسرائيلي سعت إلى التحكم في بركة العنزية والسيطرة عليها كجزء من محاولتها للتلاعب بالمعالم الأثرية في المنطقة، غير أن جهود تهويد هذا المعلم العباسي بتحويله إلى أثر يهودي باءت بالفشل؛ بفعل النقوش الموجودة عن تاريخ إقامتها، ومن أمر ببنائها. 

ويختم بالقول: "ستظل بركة العنزية رمزًا حيًّا للابتكار العمراني في العصر العباسي، تجمع بين التصميم الهندسي المتقن، والجمال الثقافي بمقاومتها للزمن ومحاولات الأسرلة".