بعد هدنة إنسانية خلال العدوان الإسرائيلي على غزة عام 2014، تمكن وسام شحيبر (47 عامًا) من استلام راتبه من البنك، وعاد لمنزله محاولًا أخذ قسط من النوم، كانت طفلته أفنان (8 سنوات) تلعب مع شقيقها عدي (14 سنة) وأبناء عمهم الشقيقين وسيم (9 سنوات) وجهاد (10 سنوات) عصام شحيبر، إضافة لابن عمهم باسل (8 سنوات) فوق سطح المنزل الواقع بمدينة غزة.
تحت مرأى طائرات حربية إسرائيلية بدون طيار لعب الأطفال، كان ثلاثة يقفون أمام قفص لتربية الدجاج وكان فارغًا، وبداخله يجلس طفلان.
على وقع اهتزاز البيت وصوت انفجار قريب، استيقظ وسام شحيبر من نومه وفتح النافذة محاولًا مشاهدة مكان سقوط الصاروخ فلم يجد شيئًا في الخارج، تشاركه زوجته بخوف وقلق يجتاح قلبها: "ربما الصوت قادم من الأعلى"، ثم صعد للأعلى عندما تذكر طفلته وأبناء شقيقيه، ليجد السطح الذي كان يعج قبل قليل بحركة الأطفال وأصوات، ساكنًا بلا أي صوت أو حركة.
سار خطوات للأمام، ليتجمد نظره أمام بركة دماء كبيرة سالت من أسفل أجساد طفلته "أفنان" وأبناء عمها الشقيقين "وسيم وجهاد" وكانوا بلا نفس تتكئ أجسادهم على بعضهما البعض، وتملأ الشظايا كل بقعة من أجسادهم، بينما كان عدي وباسل يتنفسان إذ أصابت معظم الشظايا أطرافهم السفلية فقط وكانا بداخل القفص.
مشهد مرعب
يطل شحيبر في حديثه لصحيفة "فلسطين" من نوافذ الذاكرة على الحدث، يكمل: "كانت أجسادهم ممتلئة بالشظايا، المشهد كان مرعبًا، بركة دماء، وأطفال ممددون أمامك ويغرقون بدمائهم، فبدأت بتحسس نبضهم فوجدت أن ابنتي على قيد الحياة بعد، فحملتها، وفتحت عينيها وكانت متألمة؛ وقالت: "بابا إيدي بجعوني"، فطمأنتها: سأصطحبك للمشفى، ثم حملت زوجتي ابن أخي الآخر وكان يتنفس، وساعدنا الجيران في إسعاف الأطفال الثلاثة الآخرين".
اقرأ أيضاً: خلال أسبوع.. شهيد وإصابة 9 مستوطنين في 222 عملًا مقاومًا بالضفة والقدس
من شدة هول الصدمة، ومشهد الدماء الذي كان أول من وصل إلى السطح، غاب "شحيبر" عن الوعي، وفاق بالمشفى يسأل عن طفلته وأبناء شقيقه، "أخبرني الأطباء أنها استشهدت، بفعل نزيف داخلي بالقلب، شعرت أن الدنيا أظلمت أمامي، وأعلنوا استشهاد أبناء شقيقي عصام وهما "وسيم وجهاد" ونجى من المجزرة ابني عدي وباسل ابن شقيقي الآخر" يقول.
لم تنته القصة بدفن الأطفال الثلاثة، بل بدأت قصة أخرى في ملاحقة قتلة الأطفال، أثناء إزالة العائلة لبقايا الصاروخ القاتل، حينما عثر ابنه على قطعة صغيرة من بقايا الصاروخ مكتوب عليها "صنع في فرنسا".
ويكمل: "كانت القطعة عبارة عن أجزاء من محرك الصاروخ أو الدافع من تصنيع شركة فرنسية، وأثناء إجراء صحفية فرنسية مقابلة معنا، حدثتها عن الأمر، فتعهدت برفع القضية في القضاء الفرنسي".
بصمات فرنسية
بعد سبع سنوات من مرور المجزرة وانتهاء العدوان، بدأت القضية تتحرك في القضاء الفرنسي فاتصل عدد من المحامين مع "شحيبر"، بهدف استماع القاضية لروايات شهود عيان، يوضح "لم نستطع السفر وقلنا سنتحدث عبر تقنية "الفيديو كونفرنس" لكنها أصرت على حضورنا إلى فرنسا".
في 16 يوليو/ تموز 2023، سافر شحيبر برفقة زوجته، ونجله عدي الذي أصبح عمره أربعة وعشرين عامًا إلى فرنسا، إضافة إلى عصام شحيبر والد الطفلين "وسيم وجهاد" وكذلك الناجي الثاني من المجزرة باسل ياسر شحيبر وأصبح عمره ثمانية عشر عامًا، واستمع إليهم القاضي على مدار عشرة أيام من تواجدهم في فرنسا. كما أفاد.
عن سؤاله إن كان يتوقع تحقيق القضاء الفرنسي للعدالة، أجاب بنبرة ممزوجة بعدم التفاؤل كثيرًا "قلت لهم أنني لا أريد التعويض، وأنني أريد محاسبة الشركة المصنعة للأسلحة، فما ذنب الأطفال حتى يتم قتلهم بدم بارد، ووعدني القاضي بأن يأخذ القانون مجراه ونحن ننتظر".
بعد شكوى بـ"التواطؤ في جريمة حرب" ضد شركة فرنسية سلمت جزءًا يستخدم في تصنيع صاروخ إسرائيلي قتل أطفال على شحيبر، استمع القاضي إلى روايات أقارب الضحايا الذين سافروا من غزة بحثًا عن العدالة ومحاسبة الجناة، "فهل يتم إنصافهم؟". يتساءل شحيبر بقلب مليء بالحسرة على فقد طفلته.
ورغم أنه رزق بطفلة حملت نفس اسم شقيقتها "أفنان" إلا أن مرور عشر سنوات لم ينسه الجريمة التي تتحرك بذاكرته كل يوم، وفي كل مرة ينظر إلى صورة ابنته الشهيدة المعلقة داخل أحد جدران البيت، ويعتبر محاسبة الجناة هو انتصارٌ للقضية.
كانت تحلم "أفنان" أن تصبح مدرسة للغة الإنجليزية لتخاطب العالم عن جرائم الاحتلال الإسرائيلي، ولم تدرِ أنها ستقتل وهي التي لم تعش طفولتها بعد، وتكون ضحية بطش (إسرائيل) التي أرادت إخبار العالم عن جرائمها.