بكلمات مليئة بالأمل والحب ونظرة إلى المستقبل القريب، لخص الداعية د. وائل الزرد مسار حياةٍ تمناها لنجله "براء" وحملت مراجعة لنجاحات ماضية، وأيامًا وأعوامًا كبُرَ فيها ابنه وأصبح شابًا، كتب على صفحته على فيسبوك "هذا العريس البراء": "كبر وأنهى الثانوية العامة، ودخل الجامعة، وكمان شويتين بيخلص، إلا وهو متزوج وصاير عنده أولاد وبنات، وهيك الدنيا".
وكأنَّه شعور قلب الأب الذي سبق كل شيء، كانت مراسم الزفاف مختلفة، فـ"العريس" حزم حقائب الرحيل، ففي صباح اليوم ذاته (الأربعاء) الذي زفّه والده عريسًا بمنشور وطلب من الناس "الدعاء له بالتوفيق" عاد ورثاه شهيدًا في المساء بعد استشهاده في أثناء مشاركته بفعالية وطنية قرب السياج الفاصل شرق غزة، وقع على أثرها انفجار "عرضي"، ارتقى فيه خمسة شهداء، وعاد الناس للترحم عليه في المنشور ذاته، الذي فصل بين الحياة والموت.
أمام "ثلاجات الموتى" بمستشفى الشفاء بمدينة غزة، كان شقيقه وتوأم روحه "عبد الرحمن" ينتظر حمل جثمانه هو وشقيقهما الأكبر "حسام".
اقرأ المزيد: غزة تُشيّع في مواكب مهيبة جثامين شهداء معركة الأسرى
بالأمس خرج عبد الرحمن وبراء معًا، وأمضيَا وقتًا مميزًا انتهى بافتراقِهما، ومع صيحات التكبير التي صدحت بها حناجر المشيعين، وضع "عبد الرحمن" جثمان شقيقه على كتفه وانطلقت الجنازة، وفي الخلفية كانت سيارة الإذاعة تردد: "وداعًا.. أهلي رفاقي وداعًا".
بمسجد المحطة الذي ترعرع فيه براء، يستقبل والده المعزّين بقلب صابر ثابت، يحتسب مصابه الجلل على الله، ترفض ملامحه الانكسار أمام الحزن والاحتلال، بنبرات متماسكة يقول لصحيفة "فلسطين": "من أقدار الله العجيبة أنه بعد أن أنهى الثانوية العامة ونجح فيها، وسجّل بالكلية الجامعية وسيدخل بمشواره معترك الحياة، كنت أحب أن أنعم عينه وأهدّئ من خاطره وأفرحه بهذا المنشور، مع أنني لا أنشر منشورات لأولادي تحديدًا".
وأضاف في لحظة بدأ المعزون يملؤون المسجد: "أردت أن أفرحه، وكتبت سلسلة من حياته أنه أنهى الثانوية العامة ودخل الكلية الجامعية، وسيتخرج ويتزوج ويصبح عريسًا وله أولاد وبنات".
يمتلئ قلبه بالرضا والتسليم بقضاء الله، "هذا القدر الذي كنت أرسمه له، لكن الله أعد له قدرًا آخر ولا يغلب على الله غالب، فقدره هو الأقوى وقدره هو الأجمل والأحلى، ونحن راضون بما قدر، لن نبخل على فلسطين بأولادنا وبناتنا وسنبقى مستمرين".
الشهادة حلمه
كانت الشهادة حلمًا من أحلام "براء" التي كان والده شاهدًا على سر التعلق بها "كان يريد أن يلتحق ببعض أصدقائه ممن استشهدوا، ولطالما كان يلح أن أدعو له بالشهادة، حتى عندما نشرت المنشور أنه عريس، وناقش معه أحد أصدقائه الأمر شرق غزة قال له: والدي يزفني إلى الآخرة وليس إلى الدنيا".
تطل آخر صورة لبراء على حديث والده "في نفس اليوم كنا قد تناولنا طعام الغداء سويًّا، واستأذن أن يذهب هو وأخوه بنفس عمره (عبد الرحمن)، لمطعم مُعيّن، فأرسل لي رسالة هاتفية: أبي.. تغدينا أنا وأخويا، الحمد لله مبسوطين فهل تأذن أن نذهب لمسيرات العودة، سماح؟" يبتسم صوته هنا قلت له: "سماح".
قبل أربع سنوات أتمَّ براء حفظ القرآن الكريم، واحتفل به والده في حفل تكريم للحفظة، يعلق بكلمات غادرت قلبه مليئة بالفخر والاعتزاز: "طلبت أن يأتي بشهادة دورة أحكام عليا وجاء بها، وكان يفترض أن يبدأ الحصول على السند المتصل، ويظهر أن الله خبَّأ له قدرًا أجمل".
في داخل منزله، يتكئ صوت أمه ووجعها على آخر لحظات سعيدة عاشتها مع نجلها ترفدها ذاكرتها بتفاصيله، "سألني والده وهو يعده بشراء حاسوب وتسفيره لأداء مناسك العمرة: ملاحظة إني متغير مع براء؟، ثم أجاب بنفسه وقد غلبته الدموع: والله بحبه".
وضع براء الهاتف أمام أمه يطلب منها النظر للصورة، تتسابق عبارات الدهشة الممزوجة بالفرح: "شوفي يما، أبويا ناشر صورتي"، التي ارتسمت تعابيرها على ملامح أمه وصوتها أيضًا: "ما شاء الله، أبوك اختارك من بين إخوتك، لينشر عنك أنت، لو مكانك بقبل قدمه على اللفتة الجميلة"، فزاد على كلام أمه "وأكتر يما".
كأنه جبل صامد أمام عاصفة الفقد، اكتمل مظهر ثبات الرجل الذي لطالما سكنت كلماته قلوب ذوي الشهداء على المنابر وخلف الشاشات وفي بيوت العزاء، حينما حمل نعش نجله على كتفه وهو يواريه الثرى، يزفه شهيدًا بـ"قدرٍ أجمل" مما تمناه.
رجل الإصلاح المتصدق
في داخل المسجد، يتأمل صديقه حمزة النخالة (19 عامًا) المكان الذي كانا يجلسان فيه معًا بعد انتهاء كل صلاة، في لحظة تزاحمت فيها الذكريات والصور التي أطل منها براء في أثناء حديثه لنا وهو يجلس على كرسي بلاستيكي، يصفه بأنه "روح الحياة في المسجد"؛ إذ كان يصلح بين أي شابين متخاصمين.
بعينين محمرّتين وصوت يكسوه الحزن، يقول النخالة: "امتاز براء بالمشاركة بمعظم الأنشطة في المسجد، لدرجة أنه كان يطلب من عمال النظافة إشعاره لمشاركتهم في أعمال تنظيف دورات المياه وأرضيات المسجد، كان متعلقًا بالشهادة لدرجة أنه يكثر التصدق على الفقراء ويطلب منهم الدعاء له بالشهادة، أو يزور بيوت الشهداء ويسأل عن الصفات التي تحلى بها الشهيد فاستحق الاصطفاء".
كان يفترض أن يكون النخالة برفقة صديقه براء شرق غزة: "جلسنا على باب المسجد ننتظر السيارة، وعندما تأخرت ذهبت لزيارة جدتي، فجاؤوا إليّ وكنت داخل أرضنا الزراعية أقطف لهم الثمار، فسلم براء على جدتي وطلب منها الدعاء له، وأخبرها أنهم مستعجلون وأن تخبرني أن ألحق بهم بسيارة أخرى، لكن حدث معي ظرف منعني من اللحاق بهم، فتفاجأت باستشهاده".
"أنا بدي أكون أول شهيد بجيلنا، عشان أستقبلكم على باب الجنة"، يستحضر رفيق آخر مقولة براء لهم، مضيفًا، "عرفته من رجال الله المخلصين، طلب الشهادة بصدق فصدقه الله".
لطالما تمنى براء أن يكون له سهم من سهام تحرير فلسطين، فلامس حلم العودة عند السياج الفاصل. نزفت دماؤه، وأسرَجها لتنير درب التحرير وعودة الشعب الفلسطيني إلى أرضه بعد تطهيرها من الاحتلال.