فلسطين أون لاين

تقرير موسى أبو عصبة يُلين الحديد ليروي حكاية فلسطين

...
نابلس-غزة/ مريم الشوبكي:

يعد تمثال الفلاح الفلسطيني، الذي صُمم بعناية فائقة على يد النحات موسى أبو عصبة، أحد أبرز الرموز الفنية والتاريخية في بلدة برقة بقضاء نابلس. تجسد هذه القطعة الفنية روح الصمود والتمسك بالتراث الفلسطيني، وتحمل في تفاصيلها قصة حياة الفلاح البسيط وعطائه لأرضه ومجتمعه.

صنع موسى أول تمثال للفلاح الفلسطيني "ظريف الطول" بطلب من صديقه الصحفي أحمد دغلس، وذلك بعد أن عاد إلى بلدته برقة بعد سنوات طويلة قضاها مغتربًا.

العناية التفاصيل

ويقول موسى: "تمثل هذه القطعة الفنية رمزًا للعلاقة الوثيقة بين النحات والمجتمع، حيث أشبعت تفاصيلها من أهم تفاصيل حياة الفلاح من شارب وقبعة وحتى خطوط وجهه، يحرك كلتا يديه مجرد وصول أي شخص بوابة مزرعته. يعكس تفاصيل الفلاح البسيط تصميمًا دقيقًا واهتمامًا فنيًّا يجسِّد الحياة والتاريخ".

ويضيف مستدركًا: "قبل صناعة تمثال ظريف الطول، كان لدي هاجس عدم تمكني من إتقانه كما يجب، ولكن انبهار من حولي بدقة المجسم، وجماله شجعني على الاستمرار في تصنيع المجسمات".

ويأسف موسى لقيام جيش الاحتلال الإسرائيلي بإزالة المجسم من أمام مدخل قرية دير شرف التي تقع ما بين نابلس وطولكرم وجنين، حيث عمل المجلس القروي على تثبيته، "لا يريد الاحتلال أي رمزية فلسطينية تصل الشعب بتراثه المادي والمعنوي".

يعمل موسى في الأصل حداداً منذ ثلاثين عاماً، ومع عمله الفني الأول لتطويع الحديد بدأ شغفه بنحت مجسمات لرموز فلسطينية شعبية، وتاريخية بتفاصيل بالغة الدقة عززتها موهبته في الرسم.

ويحكي الرجل الخمسيني: "كنت أصمم في الورشة مجسمات فنية خاصة ببيتي، ومن ثم أخذتني الوظيفة بعيدًا عن هذه الحرفة التي هي في الأصل موهبة، لأعود إليها من خمس سنوات في إثر حصوله على تقاعد المبكر".

ويتابع: "في السابق كنت أمارس هوايتي في نحت مجسمات من الحجر، ولكن لم أستمر بها لانشغالي في الوظيفة المدنية، ولكن شغفي بالرسم لم يخفت حتى عاد وهجي في تصميم التماثيل الحديدية".

حنظلة وشيرين

في رحلته المهنية، اندفع موسى لنحت مجسمات فنية تشمل شخصيات تاريخية ووطنية من مختلف الجوانب الثقافية والدينية، مثل تمثال "جفرا" والشهيدة شيرين أبو عاقلة.

ويلفت إلى أحد المواطنين الفلسطينيين طلب منه منذ عدة أشهر مجسماً لشخصية "حنظلة" وهي شخصية رمزية ابتدعها رسام الكاريكاتور الفلسطيني الشهيد ناجي العلي، وتمثل طفل يبلغ من العمر 10 سنوات، لن يكبر حتى يعود لفلسطين، ظهر لأول مرة في لوحات ناجي العلي عام 1969 بجريدة "السياسة الكويتية"، وأدار ظهره للعالم مكتفًا يديه خلف ظهره في أعقاب حرب 1973، رفضًا للسياسات الأميركية لتسوية القضية الفلسطينية.

صمم موسى مجسم "حنظلة" بطول ثلاثة أمتار، ونصب عند أضرحة شهداء قرية برقة منذ عدة أشهر تزامنًا مع اندلاع المواجهات بين الشبان الفلسطينيين الثائرين وغلاة المستوطنين.

وكان لاستشهاد الصحفية شيرين أبو عاقلة، لحظة قاسية على النحات موسى، فقرر بعد عام على استشهاد في مايو 2022 أن يصنع لها مجسمًا يخلد جهودها في إظهار جرائم الاحتلال الإسرائيلي وعمق انتمائها للقضية الفلسطينية انحيازها الدائم لشعبها.

يقول: "اخترت أفضل وأقوى أنواع الحديد، المقاوم للصدأ والظواهر الطبيعية، خاصة أن العمل سيعرض في الهواء الطلق، وبدأت بتطويعه وقصّه وثنيه، وكنت استرشد بصورة شخصية لها".

وينبه إلى أن نحت شخصية تراثية مبهمة لا يوجد لها صور يعد مهمة أسهل من نحت أيقونات وطنية وتاريخية لها صور، ومعروفة لدى الناس لأنها تحتاج إلى دقة عالية في نحت تفاصيلها، للوصول إلى الصورة الحقيقية بنسبة 90%، لأنها تصنع يدويًا، بخلاف ما يصنعه عن طريقة الحاسوب.

ويوضح أن عملية تطويع الحديد بالنار تحتاج إلى مشقة كبيرة، وساعات عمل طويلة، إذ قضى شهرين في نحت "ظريف الطول"، وثلاثة أشهر في تمثال "جفرا"، أما تمثال الشهيدة شيرين أبو عاقلة فاحتاج تصميم نصف جسدها خمسة أشهر من العمل المتواصل.

وعن كميات الحديد التي يحتاجها نحت تمثال واحد، يفيد بأن ذلك يتوقف على سماكة الحديد التي تصل 4 ملم، ونوعيته، ويتراوح وزنه من 100 إلى 200 كيلو حسب حجمه.

طموح وتحديات

ولدى سؤاله عن الشخصيات التي يطمح بصنع مجسم لها، يجيب: "لدي حلم بنحت البطل المملوكي سيف الدين قطز، والذي استطاع حماية المسلمين، والعرب من المغول وحروبهم الدامية.

كما يتطلع إلى نحت رئيس الجيش العراقي في أثناء نكبة 1948م "عمر علي" الذي كان له اليد الطولى في تحرير جنين، وكان قد أكمل طريقه لتحرير كل المناطق حتى وصل العفولة، ثم أُمر بالعودة رافضاً تسليم جنين للعصابات الصهيونية.

وبالرغم من التحديات التي تواجه عملية نحت التماثيل من الحديد بسبب تأثرها بالعوامل الجوية، يظل موسى مصممًا على الاستمرار في هذه الرحلة الإبداعية، إذ يسعى إلى تخليد الشخصيات التي أثرت في تاريخ فلسطين والعالم العربي، وبذلك يساهم في توثيق البطولات والإنجازات التي غالبًا ما تمر دون اهتمام كافٍ.

ويدعو في ختام حديثه المؤسسات والمنظمات غير الحكومية إلى دعم الأعمال الفنية التي تناقش تاريخ الشعوب والحضارات. إنه يتطلع إلى استمرار عمله في إنتاج تماثيل فنية تسهم في تقدير التراث والتاريخ، وتنقل الرسائل الإنسانية الجوهرية من جيل إلى جيل.

المصدر / فلسطين أون لاين