لعل أكثر شيء يؤلم الشعب الفلسطيني في نضاله ومقاومته للاحتلال الصهيوني أن تأتيه طعنات الغدر من العرب متمثلة بتطبيع علاقاتهم معه على حساب القضية الفلسطينية وهو يمر الآن بأخطر منعطفات في تاريخه النضالي، لما تشهده الأراضي الفلسطينية المحتلة من مقاومة شاملة ضد الاحتلال، الذي أتى على كل الوجود الفلسطيني، والاستيطان والتهويد الأراضي والمقدسات، ناهيك عن الجرائم اليومية التي يرتكبها بحقه بالقتل والاعتقالات تارة، والهدم والتجريف والاقتلاع والتهجير تارة أخرى.
لم تشفع اتفاقيات “أبراهام” التطبيعيّة السابقة للاحتلال، إذ كشفت المقاومة الفلسطينية من جديد مركزية القضية الفلسطينية للأمة، وأظهرت حقيقة الاحتلال الصهيوني وهمجيّته الدموية، لذا تحاول حكومة الاحتلال المتطرفة بزعامة نتنياهو من جديد اقتحام العالم العربي سرًا وعلانية للزيادة في غلة التطبيع، بهدف تجميل صورتها الدموية الملطخة بالدم الفلسطيني، فتحاول استكمال لعبتها السياسية مع بعض الأنظمة العربية على أمل جر ما تبقى منها إلى التطبيع سواء كان بالتقرب والتودد أو بإقناع هذا الزعيم وخداع ذاك الوزير بإغراءات واهية، كما خدع به المطبعين من قبل ولم ينالوا إلا “سواد الوجه”، تمامًا كما فعل بوزيرة الخارجية الليبية، نجلاء المنقوش بالكشف عن لقائها التطبيعي في إيطاليا مع وزير خارجية الاحتلال إيلي كوهين، تمهيدًا للتطبيع العلني، وقد أدى هذا التصرف المشين إلى إقالتها وتحويلها إلى التحقيق وربما يصل بها الأمر إلى حد العقوبة الجنائية لمخالفتها القانون والدستور الليبي، اللَّذين يجرمان التطبيع واللقاءات مع أي طرف صهيوني على المستويين الرسمي والشعبي.
تنظر حكومة الاحتلال للتطبيع نظرة الغريق المتعلق بقشة بالذات في هذه الأوقات العصيبة التي تمر بها، للتستر على جرائمها بحق الشعب الفلسطيني، ولحماية نفسها من الضغوطات الدولية التي تثار بين الحين والآخر ضد جرائم الإبادة الجماعية للشعب الفلسطيني والانتهاكات المتواصلة لحقوق الإنسان في الأراضي الفلسطينية المحتلة بالاستيطان والتهويد، وحصار غزة، وسياسة الفصل العنصري الصهيونية، وأهم من كل هذا وذاك، هو محاولتها الخروج من مأزق الضفة المحتلة التي تشهد مقاومة شرسة منذ عامين على التوالي ضربت حصون الاحتلال ومعاقله وما تزال آخذة بالتصعيد وقد فشلت فشلًا ذريعًا أمنيًا وعسكريًا بالقضاء على المقاومة، الأمر الذي زاد عليها طوق الخناق وهي في وضع لا تحسد عليه، وما المظاهرات والاحتجاجات اليومية ضدها التي تعم الشارع الصهيوني وتطالب بإسقاطها، إلا صب الزيت على النار.
اقرأ أيضًا: لقاء روما.. التطبيع بين السرية والعلنية
اقرأ أيضًا: صفقة "حيتس 3" والتطبيع مع السعوديّة والمكافآت الأمريكيّة
العرب لا يدركون مدى أهمية التطبيع لـ(إسرائيل)، إذ يمثل لها هدفًا دعائيًا مهمًا توظّفه لضرب النضال الشعبي الفلسطيني والتضامن العالمي معه، لما لحق بها من أذى على مستوى العالم أجمع بسبب الضغوطات التي تواجهها من حركة المقاطعة الدولية (بي دي أس)، وقد بدى تأثيرها في عزل الاحتلال الإسرائيلي أكاديميًا وثقافيًا وإلى حد ما اقتصاديًا، حتى باتت (إسرائيل) كيانا منبوذًا ومكروهًا، وقد توسعت المقاطعة حتى شملت كنائس، وجامعات، ومدارس، ونقابات، وبرلمانات، وأحزاب سياسية، ومؤسسات مالية، ونوادي رياضية، ومعارض فنية غربية، فكلما تبنَّت مصانع وشركات عالمية، وبنوكًا أوربية قرارًا بسحب الاستثمار من بنوك إسرائيلية متورطة في الاحتلال الأبارتهايد، يفرح الجميع. وكلما ألغت مغنيّة مشهورة عرضًا في (تل أبيب) أو انسحب مخرج مرموق عالميًا من مهرجان سينمائي إسرائيلي تضامنًا مع فلسطين يفتخر الجميع، والسؤال الذي يطرح نفسه هو لماذا يطبع العرب مع الاحتلال وهناك دول أجنبية ترفض التطبيع أو إنشاء علاقات معه، وحتى البعض ألغت اتفاقياتها معه، بسبب عنصريته وجرائمه المستمرة وتضامنًا مع القضية الفلسطينية؟
لقد ذكرت في مقال سابق أن (إسرائيل) حاولت تشويه صورة النضال الفلسطيني ببث الفرقة والخلافات وخلق الانقسامات والمشاحنات والانشقاقات على مستوى الفصيل الواحد أو على مستوى الشأن الفلسطيني عامة، من أجل خلق حالة اشمئزاز عربية من القضية الفلسطينية، لذلك أنشأت العديد من الاستراتيجيات من أجل القضاء على مفهوم الصراع العربي-الإسرائيلي في محاولة منها لنزع البعد العربي من هذا الصراع وإفراغِه من مضمونه وتحويله إلى لقاء بعيدًا عن ممارسته العسكرية والتهويدية، وأهم هذه الإستراتيجيات هي التطبيع، وبه أن توجد لنفسها مكانًا بين الأنظمة العربية، وهو ما بات مرفوضًا لدى الشعوب العربية، الذين يرون أن (إسرائيل) عدو رئيسي، فبحسب مؤشر الرأي العربي الذي أجراه المركز العربي للأبحاث والدراسات، فإن أكثر من 84% من العرب يرفضون الاعتراف بـ(إسرائيل) أو إقامة علاقات دبلوماسية معها، على أنها جزء طبيعي في المنطقة العربية ومن ثم تجاهل ممارساتها في إبادة وتشريد الفلسطينيين، واعتداءاتها على ثماني دول عربية في مدة زمنية قصيرة هي مصر، والعراق، والأردن، ولبنان، وليبيا، والسودان، وسوريا، وتونس.
فعلة المنقوش قلبت السحر على الساحر، وها هو الشعب الليبي الأصيل ينتفض عن بكرة أبيه ضد اللقاء التطبيعي وأثبت تضامنه مع شقيقه الشعب الفلسطيني الواقع تحت ظلم الاحتلال الصهيوني، الذي لا يؤمن بالاتفاقيات ولا بالمعاهدات ولا يؤتمن على أسرار، فإذا كانت تعتبر المنقوش أن لقاءها التطبيعي كان هفوة سرية، فهي مست بالثورة الليبية وسمعة بلدها الثوري، الذي له بصماته المشرفة في دعم ومساندة القضية الفلسطينية، بل إنها منحت إنجازًا سياسيًا لكوهين وحكومته الفاشية التي تطلق التهديدات جهارًا نهارًا بقتل وتصفية الفلسطينيين وقادتهم، وفي النهاية بقى لي سؤال أخير أطرحه وهو، ما هي الحاجة التي تدعو ليبيا وغيرها للتطبيع مع الاحتلال الصهيوني بقدر حاجتها وغيرها لدعم الشعب الفلسطيني في مقاومة الاحتلال والدفاع عن المسجد الأقصى المبارك؟