لم تكن محافظة خليل الرحمن بمنأى عما يحدث لشقيقاتها من باقي محافظات الضفة المحتلة، والمعروف عنها أنها دائماً تتصدر الانتفاضات والثورات والهبات مدافعة عن المقدسات على رأسها المسجد الأقصى والحرم الإبراهيمي المباركين ضد قوات الاحتلال وقطعان المستوطنين، وها هي الخليل تعود من جديد تثأر للأقصى ولدماء الشهداء في جنين ونابلس وطولكرم بعملياتها الفدائية المزلزلة ضد المستوطنين، فبالأمس القريب ضربت المقاومة في الخليل برصاصاتها فقتلت مستوطنًا وجرحت آخر بالقرب من مستوطنة ما يسمى بـ “كريات أربع” الجاثمة في وسط المدينة، التي يعدها الاحتلال من أكثر الأماكن حساسية لكونها من أكبر المستوطنات في الضفة، لكن وقوع العملية بجوارها، يعني هذا وجود ثغرات أمنية مخترقة لدى الاحتلال تستغلها المقاومة في تنفيذ عملياتها الجريئة بنجاح وارتياح.
تذكرنا عملية الخليل يوم الاثنين الماضي بالعملية الفدائية الجريئة التي نفذها الشهيد المشتبك محمد الجعبري العام الماضي في وسط مدينة الخليل وقد قتل حينها مستوطن وجرح آخر، أيضاً لأسباب مشابهة وهي الثأر لدماء الشهداء وتدنيس المستوطنين للأقصى، إذ تزامنت العملية الفدائية مع الذكرى الـ 54 لإحراقه على يد المستوطن الإرهابي مايكل روهان عام 1969، وهذا ترك جرح كبير في نفس كل فلسطيني غيوراً على مقدساته، ولا يزال الجرح مفتوح إلى هذا اليوم، بسبب الاقتحامات اليومية له من المستوطنين بزعامة المتطرف بن غفير، وما يصاحبها من دعوات تطلقها منظمة ما يسمى بـ “جبل الهيكل” المتطرفة لهدمه وبناء “الهيكل” المزعوم مكانه.
وبالرجوع إلى العملية الفدائية في الخليل يمكن القول أنها كانت مفاجأة للاحتلال الذي حاول عزل المدينة عن باقي مدن الضفة المحتلة، لأسباب أمنية محضة، بإبعادها عن مسرح أعمال المقاومة الدائر رحاها على مدار عامين في أرجاء مدن وقرى الضفة، وخشيته من دخول الخليل لموجة العمليات الفدائية على غرار مشاركتها في والانتفاضات والهبات الشعبية السابقة، خاصة وأن الخليل مشهود لها بعملياتها الفدائية النوعية، التي مرغت أنفه وأذلته، وليس أدل على ذلك العملية “زقاق الموت” التي قتل وجرح فيها عشرات الجنود في عام 2002، وكذلك العملية الثلاثية في (تل أبيب)؛ دهس وطعن وإطلاق نار، التي نفذها الشهيد عبد الوهاب خلايلة من محافظة الخليل الشهر الماضي، وقد أسفرت عن إصابة عشرة إسرائيليين بينهم ثلاثة بحالة خطر بحسب رواية الشرطة الإسرائيلية آنذاك، لكن استمرار العمليات كانت قد فندت ادعاء الاحتلال اختلاف جنوب الضفة عن شمالها، وبإفهام المستوطنين بحالة الهدوء والاستقرار الأمني، ولكن اليوم تؤكد الخليل من جديد عدم تخليها عن دورها المقاوم وانخراطها مع باقي مناطق الضفة في هذا النضال ضد الاحتلال والاستيطان.
قراءتي لعملية الخليل أنها حملت أبعاداً أمنية وأخرى سياسية، لكونها جاءت في منطقة يعدها الاحتلال مهمة أمنياً، اذاً فهي من العمليات الأكثر ألماً والأشد وطأة عليه، خاصة أن العملية نفذت بدقة وباحتراف، بالرغم حالة الاستفتاء القصوى لقواته وفرق أمنه واستخباراته.
المنتشرة في مركز المدينة، هذا يعني إخفاق أمني واستخباراتي مزدوج للاحتلال، الذي فرض طوقاً على المدينة عقب العملية، وأعلنها منطقة عسكرية مغلقة، وما حالة الاستنفار العسكري والأمني في إطار محاولتها البحث عن منفذي العملية لهو دليل آخر على عجزه وانفراط سيطرته الأمنية، وأصبح في موقف لا يحسد عليه من الإحباط في مواجهة المقاومة، بعد ترجيح الخليل الكفة بدخولها بثقل على خط العمليات، ولعل أهم ما بعثته هذه العملية هو رمزية الخليل مهد المقاومة في الضفة وأيقونة الانتفاضات، التي سجلت في تاريخها أعظم العمليات ضد الاحتلال ومستوطنيه، وأنها شكلت تطوراً مهماً في العمل المقاوم، لكونها من العمليات الفدائية الكبرى في منطقة جنوب الضفة المحتلة منذ اندلاع الأحداث المسلحة خاصة مطلع العام الحالي، كما أنها شكلت ضربة للمؤسسة الأمنية الإسرائيلية لعدة أسباب، منها أنها وقعت في منطقة خاضعة لها وقريبة جداً من مركز قيادة جيش الاحتلال ومربع أمني معروف بالتحصينات الأمنية والإنذار في الخليل، وبذلك تكون قد وجهت ضربة لحالة الاستقرار التي روج لها الاحتلال في السنوات الأخيرة بالخليل، وأن تنفيذ هذا النوع من العملية الفدائية في ظل انتشار أمني مكثف وسط مدينة الخليل، أي في أكثر الأماكن استنفاراً وحيطة، وهي المدينة الوحيدة التي يوجد بداخلها مستوطنون وتفشل المؤسسة العسكرية الصهيونية في حمايتهم، أدى هذا إلى استشعارهم بانعدام الأمان في الخليل بعد اليوم، وبأن الهدوء السابق في المدينة كان خداعاً، ليس هذا فحسب بل إن أهم الأبعاد والرسائل التي حملتها العملية تكمن في أنها نقلت المعركة لجميع مناطق الضفة الغربية المحتلة بعدما كانت مركزة في شمال ووسط الضفة فقط، وهو ما يحقق أسوأ السيناريوهات لدى المنظومتين الأمنية والعسكرية للاحتلال بأن لهيب المقاومة امتد لمختلف المناطق في الضفة من جنين ونابلس وطولكرم مروراً بالقدس وأريحا وصولاً إلى الخليل، التي قد تكون ملهمة لمزيد من العمليات الفدائية ودافعاً للشباب بالانخراط في المقاومة والاشتباك.