قدَّمت غزة منذ أيام نموذجاً متميزاً في تخريج 1,471 حافظاً للقرآن في يوم واحد، تتراوح أعمارهم بين 8 أعوام و72 عاماً؛ وكان بينهم عدد كبير من الأطباء والمهندسين والمعلمين ورجال الأمن.
غزة التي ترزح تحت حصار خانق منذ أكثر من 17 عاماً، أصرّت على مراكمة عناصر القوة والصمود ومقاومة العدوان، واهتمت بصناعة "الإنسان" المؤمن المقاوم المحتسب، وطورت قدرات عسكرية بأبسط الإمكانات، وأصبح لديها صواريخ يزيد مداها على 200 كم، وطائرات مسيرة وغيرها مما لا يتوفر لدول غنية مستقلة، وخاضت عدة حروب مع الاحتلال الصهيوني مرّغت فيه أنف جيشه بالتراب، وألجأت الملايين من سكانه إلى الملاجئ؛ وتقبّلت بعزٍّ وكبرياء استشهاد وجرح الآلاف من أبنائها، ودمار عشرات الآلاف من مبانيها، وقدمت "مدرسة عالمية" في الصبر والصمود والانتصار والتعالي على الجراح.
ولا يبعد ذلك عن حال أهلنا القابضين على الجمر في القدس وباقي الضفة الغربية وفلسطين المحتلة 1948 ومخيمات اللجوء في الشتات، وثباتهم على الأرض ومقاومتهم للاحتلال بأشكال مختلفة.
في المقابل، تصيبنا حالة من الذهول والإحباط والغضب، ونحن نرى حال أمتنا ودولها التي تعاني من التخلف والضعف والتشرذم والانحطاط الحضاري، واتساع الفجوات العلمية والتكنولوجية والعسكرية مع دول العالم المتقدمة بما يزيد على خمسين أو مئة عام، في الوقت الذي تنشغل دول عالمنا الإسلامي بتبديد الكثير من ثرواتها على منظوماتها الفاسدة، وعلى وسائل اللهو والترف، والاحتفاء بالثانويات والتفاهات.
ثمة "طوفان" هائل من التفاهات التي تغرق وسائل الإعلام ووسائل التواصل الاجتماعي، وتشغل الشعوب عن القضايا الكبرى وعن أولوياتها، بل توفر منصات لنقل عادات التفسخ الاجتماعي والأخلاقي وتدمير الفرد والأسرة والمجتمع، وإشاعة الشذوذ، وتقديم المنكرات كأدوات لهو أو حريات شخصية، بينما لا تلقى قضية القدس وفلسطين، ومعاناة المسلمين في كل مكان، ومشاريع النهضة والصعود الحضاري والمصالح العليا للأمة... عشر معشار ما تلقاه التفاهة.
في ستينيات القرن العشرين سأل صحفي الكاتب المصري الشهير ﻋﺒﺎﺱ محمود ﺍﻟﻌﻘﺎﺩ، أحد عمالقة الأدب العربي: من منكما أكثر شهرة، أنت أم محمود شكوكو؟ (شكوكو هو مغنٍّ مصري هزلي معروف، كان يرتدي ثياب المهرجين لإضحاك الناس).
فردّ عليه العقاد باﺳﺘﻐﺮﺍﺏ: ومن شكوكو؟
وعندما نقل الصحفي خبر تساؤل العقاد إلى شكوكو، قال شكوكو للصحفي: قل لصاحبك العقاد ﻳﻨﺰﻝ ميدان ﺍﻟﺘﺤﺮﻳﺮ (أشهر ميدان وسط القاهرة)، ويقف على أحد الأرصفة وسأقف أنا على الرﺻﻴﻒ المقابل، وسيرى على من منا ستتجمع الناس أكثر.
فردّ العقاد: قولوا لشكوكو أن ﻳﻨﺰﻝ إلى ميدان ﺍﻟﺘﺤﺮﻳﺮ، ﻭﻳﻘﻒ على ﺭﺻﻴفٍ؛ ويجعل "رﻗّﺎﺻﺔ"، ﺗﻘﻒ ﻋﻠﻰ ﺍﻟﺮﺻﻴﻒ الثاﻧﻲ، ويرى بنفسه ﺍﻟﻨﺎﺱ على من ستتجمع أﻛثر؟
ولعل العقاد أفحم شكوكو لأن فرص الشهرة تزداد في أحيان كثيرة مع ازدياد درجات الابتذال والتفاهة، وسعي الناس نحو شهواتهم؛ ولذلك لا نستغرب عندما نرى مغنّين هابطين، وممثلات مبتذلات، وعارضات أزياء يحصدون ملايين إشارات الإعجاب حتى على تعليقاتهم التافهة؛ بينما لا يكاد يجد مفكرون كبار وعلماء ومخترعون من يلتفت إليهم.
وفي تاريخنا، لعل ذلك يعود إلى أيام الفاطميين، غير أن وتيرته تصاعدت وأصبحت أكثر احترافاً هذه الأيام.
وفي واقعنا المعاصر يتم تكريم قدم اللاعب على عقل الكاتب، ولعل من الأمثلة الصارخة القريبة على ذلك ما تداولته وسائل الإعلام من تعاقد أندية رياضية خليجية مع لاعبين عالميين مقابل صفقات مالية "فلكية"، فمثلاً حصل كريستيانو رونالدو على عقد بنحو 220 مليون دولار، وحصل نيمار على عقد لا يقل عن 150 مليون دولار، ونغولو كانتي على عقد بنحو 110 ملايين دولار، وغيرها، وهي عقود يكفي أحدها لتغطية تكاليف المحافظة على هوية القدس وصمود أهلها، أو لتغطية تكاليف الوقود لقطاع غزة عن ستة أشهر، أو لميزانية جامعة محترمة! مع العلم أن ميزانية لجنة القدس التي ترعاها منظمة المؤتمر الإسلامي المكونة من 56 دولة لا تتجاوز 12 مليون دولار سنويًّا.
وحتى في بيئتنا الفلسطينية، فعوضاً عن أن تقوم السلطة بإقامة اقتصاد صمود مقاوم يهيئ فعلاً للتحرر من العدو، وإنشاء دولة مستقلة بحسب ما وعدت شعبها، قامت بإنشاء اقتصاد استهلاكي، تابع للاحتلال، وألهت الناس بالديون والقروض وبدورة حياة اقتصادية مصطنعة، وتوّجت ذلك بإنشاء "كازينو أريحا" ليكون علامة صارخة على ضياع البوصلة والأولويات.
لقد سبق أن حذّر الأستاذ الشاعر يوسف العظم من الدور السلبي للإعلام وإشغال الناس باللهو والطرب عن قضاياهم الكبرى، عندما رأى إنشداداً شعبيًّا كبيراً لأغاني أم كلثوم التي راجت قبيل هزيمة 1967؛ مثل "هل رأى الحب سكارى"... وكتب قصيدته "خدريهم يا كوكب الشرق"، ومما جاء فيها:
"كوكب الشرق" لا تذوبي غراماً ودلالاً وحُرقة وهُياماً
لا ولا تنفثي الضياع قصيدًا عبقريًّا أو ترسلي الأنغاما
فدماء الأحباء في كل بيت تتنزَى وتبعث الألاما
وجراح "الأقصى" جراح الثكالى، ودموع الأقصى دموع اليتامى
أيها الشعب خدَّرته "الليالي" مثقلات تفجَرت آثاما
فعن الحق تارة يتلهى وعن النور تارة يتعامى
خدِّرِيهم باللحن يا كوكب الشرق، وصوغي من لحنك استسلاما
أيها السادة الكبار سلامًا قد قتلتم في كل نفس سلاما
هذه القصيدة كتبها العظم عن أم كلثوم، فكيف لو قام من قبره هذه الأيام، ورأى بعينيه مغنين لا يقدّمون غير الهبوط والتفاهة والابتذال، وتترفع أم كلثوم نفسها عن كلمات أغانيهم ومستويات أدائهم وإسفافهم؛ بينما تقدمهم وسائل الإعلام كأبطال "ونجوم"؟
لقد أشار الفيلسوف الكندي آلان دونو (Alain Deneault) في كتابه "نظام التفاهة"، الذي صدر سنة 2015، ونشر بالعربية 2019، إلى سيطرة منظومات التفاهة والتافهين على مناحي الحياة، ومكافأة الرداءة والتفاهة عوضاً عن العمل الجاد الملتزم، فأصبحنا نجد سيادة منطق اللذة والمتعة والأعمال الفنية الهابطة، و"تسليع" القيم و"تسليع" الإنسان (تحويله إلى سلعة) وتغوُّل الطابع التبسيطي والتسطيحي على التفكير والأداء والتقييم، بل إن التفاهة انتقلت إلى الأوساط الأكاديمية وعالم المال والأعمال والاقتصاد والفنون.
إن الأمة تعاني في هذا الزمان من ضياع البوصلة وتشتت الاهتمامات وخلخلة الأولويات، والخطير في الأمر أن تقوم أنظمة سياسية بنشر الابتذال والتفاهة وتبنيها، وتحويلها إلى موضة وثقافة مجتمعية، فتلفت أنظار الناس عن قضاياهم الكبرى، وتدمر قدرة المجتمع على النهوض الحضاري؛ إذ ترى في ذلك إلهاء لهم عن إصلاح أنظمتهم السياسية الفاسدة والمستبدة، وقطعًا للطريق على قوى الإصلاح والتغيير في الأمة.
إن المنظومة الإسلامية مبنية على الطبيعة الجادة للإنسان المستخلف في الأرض، والساعي إلى النهوض الحضاري، وحفظ هوية الأمة وتميّزها وتراثها التاريخي، وتحقيق مصالحها العليا، وبمواجهة العدو ومخططاته وجرائمه ومخاطره، وبحفظ الهوية الإسلامية للأرض والشعب والمقدسات، ومراعاة فقه الأولويات وفقه النوازل، ولقد نبهنا رسولنا صلى الله عليه وسلم قبل أكثر من 1400 عام، إلى هذه المعاني في الحديث الصحيح "إنَّ اللهَ تعالى يُحِبُّ مَعاليَ الأُمورِ، ويَكرَهُ سَفْسافَها".
ولا بد أخيراً من وقفة جادة، وأدوار فعالة من جميع المخلصين، لموجهة طوفان التفاهة، وإعادة الأمة إلى مسارها الصحيح في التقدم والنهوض الحضاري وتحقيق شروط الاستخلاف والتمكين.