اجتاحت قلب والدة مصطفى الكستوني رجفة قلق وهي تستمع لدويّ إطلاق نار قريب دوى صداه في سماء مخيم جنين وأفزَعها من النوم في لحظة تحولت منطقة سكنها إلى ساحة معركة، لجأ أحفادها للاحتماء بحضنها هربًا من أصوات الرصاص والقذائف، منعها اقتحام قوات الاحتلال الخاصة لمنزلها من معرفة ما يحدث في الخارج، لكن صوت صراخ ابنها "مصطفى" اخترق الجدران ووصل إلى مسامعها: "تطخوش في أطفال بالدار".

قبل أن يبدأ والده باحتساء القهوة عندما ذهب مبكرًا صباح أول من أمس، ليفتح محله بالمنطقة الصناعية في جنين، مرت أمامه دورية لجيش الاحتلال، فشعر أن منزلهم المستهدف، فاستقلّ سيارته وعاد إليه لكنه بقي في ركن بعيد أمام العدوان، شاهد عملية اغتيال ابنه أمام عينيه.

يمزق الحزن صوت والدته في أثناء محاولتها الثبات وهي تقص لصحيفة "فلسطين" ما حدث: "وجهوا أسلحتهم تجاهي وتجاه أحفادي، فلجأت إلى المطبخ لحمايتهم، أرسلوا كلابًا إلى بيت مصطفى وهو ملاصق لبيتي، ثم سمعت صلية رصاص، فبدأتُ أشعر بالقلق عندما علمت أنهم اعتقلوا ابني الأكبر هاني، سألت الضابط: طمني على مصطفى، صارله اشي؟ توقعت أنّه جرى اعتقاله، حتى سمعت صوت انفجار كبير قريب فأدركت أنهم أعدموه".

اقرأ أيضاً: "حماس" تزفُّ شهيد جنين "الكستوني" وتشيد بمقاومي الضفة

اقرأ أيضاً: بالصور جماهير غفيرة تشيّع جثمان الشهيد المقاوم الكستوني في جنين

من النافذة سحب الشبان جثمان الشهيد من منزله المدمر، نقلوه على أثرها للمستشفى محاولين إسعافه وفيها سكنت آخر الأنفاس ورحل شهيدًا، وحمل على الأكتاف بعد مسيرة حافلة من مقاومة الاحتلال تعرض فيها للإصابة والسجن.

كان طفلًا يلاحق آليات الاحتلال ويرميهم بالحجارة كما أظهرت صورة له يقف أمام دبابة إسرائيلية عام 2002 ولم يزد عمره عن 9 أعوام آنذاك، ثم أصبح مشتبكًا حمل البندقية وقاوم فيها في كل مرة يتعرض فيها مخيم جنين للاقتحام، وبين الماضي والحاضر مسيرة 21 عامًا لم تتغير فيها بوصلة مصطفى (32 عامًا)، فبقي وفيًّا للمخيم الذي ترعرع بين أزقته وورث البطولة من المقاومين القدامى.

في مقابلة تلفزيونية سابقة، يروى مصطفى الذي يكنى بـ"أبو علي" ما حدث معه، كان يسحب خطواته المتثاقلة ويطل من نافذة بيته على مكان الاقتحام: "أصبت بقدمي وضربت ثم نقلت لسجن عوفر لمدة أربعة أيام، ولم تُجرَ لي عملية جراحية، ونُقلت إلى عيادة سجن الرملة لمدة شهر ونصف، وبقيت دون العملية الجراحية وكأنهم يريدون تعذيبي بإعطائنا حبة دواء".

صوت الفخر ينبعث من قلب والدته: "الحمد لله ابني رفع رأسنا، الكل يشهد له بوطنيته يحترم الكبير والصغير، كل قرى جنين تعرفه، عرضت عليه الزواج كثيرًا لكنه رفض بسبب تعلقه بهذا الطريق".

عاشت الكستوني الأم آخر لحظات مع ابنها مصطفى يوم الأربعاء، تستحضر التفاصيل ومن خلف السماعة تتسرب أصوات المعزين الذين قاطعوا الحديث وعادت لتكمل: "اصطحبني للعيادة بسبب ارتفاع سكر الدم لديّ لآخذ حقنة، ونحن نسير بالطريق رأيت كمية حب كبيرة من الناس له، كنت أشعر بشيء غريب تجاهه".

يقفز مشهد صورة لنجلها عندما كان طفلًا وهو يقف أمام دبابة، أعادت ذاكرتها 21 عامًا للوراء، فتقول: "منذ أن فتح عينيه وهو يلحق دبابات الاحتلال ويرميها بالمقلاع فكبرت شخصيته على حب فلسطين".

التصدي للعدوان

بقي مصطفى في المخيم عندما نزحت عائلته في أثناء العدوان على المخيم يومي 3-4 يوليو/ تموز الماضي، خرجت أمه من المخيم وتركت قلبها عند نجلها لم تنقطع في الاتصال عليه بين الفترة والأخرى، ومراقبة أسماء الشهداء خوفًا من أن يطل عليها من بين أحدهم.

تحاول التماسك على الطرف الآخر من الهاتف تنتقل لمحطة أخرى من تفاصيل العدوان: "غاب عني ثلاثة أيام، كان يقول لي عندما أتصل به: أنا بخير.. ما تقلقي، وكنت أعرف أنه يقاوم الاحتلال لذلك خشيت عليه، وعندما كانوا يعلنون اسم شهيد كنت أضع يدي على قلبي لا أريد مفارقته".

شقيقته شروق (28 عامًا) التي كانت تجري معه مكالمة مرئية يوم الأربعاء وتبادل معها أطراف الحديث، وجدت نفسها تقف في اليوم الثاني أمام جثته تذرف دموع الوداع وهي تلقي النظرة الأخيرة.

أظلمت الدنيا في داخلها عندما تلقت اتصالًا هاتفيًا يخبرها المتحدث باقتحام قوات الاحتلال لمنزل عائلتها تتعجب من نبرة صوته التي شابها التوتر: "مصطفى صاير له اشي؟"، حاول إخفاء الإجابة أو تأخيرها على الأقل: "لا لا تخافيش، خلينا ننتظر. يعني صايرله شيء؟ مصاب؟"، كلها أصوات حوارات بين شقيقته التي زحف القلق إلى قلبها وزوجها الذي يحاول طمأنتها أو تأخير الصدمة.

قبل أسبوعين وعندما كانت شقيقته التي تسكن في قرية كفر دان إحدى قرى محافظة جنين في زيارة لبيت عائلتها، داهمها مخاض الولادة، فكان مصطفى أول من اتصلت به.

بصوت تخنقه الدموع تستذكر لصحيفة "فلسطين": "اتصلت به فجاء بسرعة، ومكث عندي بالمستشفى لليوم الثاني، وعندما اتصلت به مساء الأربعاء كان سعيدًا وهو يرى طفلي بعد أسبوعين من الولادة، ووعدني أنه سيزورني بعد يومين للاطمئنان علي".

تصفه شقيقته بأنه شخص "حنون" لم تشغله المطاردة والملاحقة عن عائلته، امتاز بالسرية والكتمان، ولا يحب الحديث بأي شيء عن المقاومة.

قاوم بـ"الكارلو"

بالرغم من التصاق المقاومة في حياة مصطفى منذ طفولته، إلا أن التحول في حياته كما يروي أحد رفاق دربه، حدث بعد استشهاد صديقه يوسف صلاح في 18 يونيو/ حزيران 2022.

يقول صديقه الذي طلب عدم الكشف عن اسمه لصحيفة "فلسطين" إنه ومنذ استشهاد يوسف، تأثر مصطفى كثيرًا وكان همه الوحيد اللحاق به شهيدًا، واشترى سلاح كارلو من ماله الخاص ولم يكن يأخذ من أي أحد أي شيء، وعاش فقيرًا محبوبًا يقف مع الكل ويشارك بكل المناسبات.

ينتقي بعضًا من المواقف التي دللت على وفائه لأصدقائه، فبعد استشهاد يوسف كان يتفقد عائلته كثيرًا ولم يفارق بيت العزاء، وتابع "عندما اعتقلني الاحتلال، ساعد أهلي وكان يتفقدهم وعندما خرجت من الأسر أيضًا لم يتركني".

"ادفنوني بقرب يوسف" هذا ما كان يوصيه لأصدقائه، الذين حملوه في جنازة مهيبة شارك فيها أبناء المخيم ووري الثرى قبالة قبر رفيق دربه.