إن إعلان الأسرى الفلسطينيين الإضراب المفتوح عن الطعام والشراب في سجن “النقب” لم يأتِ من فراغ، إذ إن الأسرى الفلسطينيين بوجه عام والأسرى الإداريين بوجه خاص يعانون الأمرين في سجون ومعتقلات الاحتلال، الذي يمعن في تعذيبهم وإذلالهم، للنيل من صمودهم الأسطوري وعزيمتهم الوطنية الصادقة وإخلاصهم لقضية شعبهم المحتل، التي من أجلها يناضلون ويقضون سنوات من أعمارهم خلف القضبان داخل جدران الزنازين، وما يؤكد ذلك زيادة أعداد الأسرى، ما دامت الاعتقالات مستمرة وباتت نهجا مستمرا لدى الاحتلال في قمع الشعب الفلسطيني ومصادرة حقوقه واستيطان أرضه وتهويد مقدساته، وما يمارسه من قبضة حديدية، بهدف بث الرعب والخوف في نفوس الأجيال، ووأد مقاومته الدائرة رحاها الآن في أرجاء الضفة المحتلة، التي عجز عن إخمادها، فلجأ إلى الاعتقالات الوسيلة الأكثر قمعاً، كي يتذرع بها للتغطية على فشله الأمني والعسكري.
إن سياسة الاعتقالات ليست جديدة، بل إنها متواصلة منذ أن وطِئت أقدام الصهاينة فلسطين وأنشأوا كيانهم الغاصب عام 1948، فقد فتح الاحتلال الإسرائيلي سجونه ومعتقلاته، وزج في غياهبها أكثر من مليون فلسطيني، من كل فئات وشرائح الشعب الفلسطيني، ذكوراً وإناثاً، أطفالاً ورجالاً، صغاراً وكباراً، فما من بيت فلسطيني إلا وعانى مرارة الاعتقال، وما من فلسطيني إلا وجرب ويلات السجن ومرارة الاعتقال والتعذيب والحرمان لسنوات طويلة من عمره قضاها وراء القضبان، وهناك من الأسرى الشهداء الذين قضوا نحبهم داخل السجون، وآخرون يواجهون نفس المصير الحتمي، لما يعانونه من أمراض خطيرة تهدد حياتهم، بسبب سياسة الإهمال الطبي المتعمدة من إدارة سجون الاحتلال.
لم تكتفِ سلطات الاحتلال بما تمارسه من ضغوطات نفسية بالتعذيب الجسدي تارة، والتعذيب النفسي كالحرمان من الزيارات تارة أخرى، بل تقوم في كل يوم باقتحام الأقسام والغرف والزنازين للتنكيل بالأسرى، كما فعلت أمس الخميس في سجن النقب -بحسب وزارة الأسرى والمحررين في غزة- بأن أسرى قسم 3 بسجن “النقب” تعرضوا لعمليات نقل وتفتيش واعتداء وحشي بعد اقتحام وحدات قمع كبيرة تابعة لإدارة سجون الاحتلال القسم، كذلك الحال بالنسبة للأسيرات الفلسطينيات، اللواتي يواجهن ظروفاً صحية ومعيشية صعبة، حيث يتعرّضن جميعهن لجميع أصناف التعذيب الجسدي والنفسي، ودون أي مراعاة لحقوقهن التي نصت عليها جميع المواثيق والاتفاقيات الدولية، وقد بينت الهيئة في تقريرها السابق أن هناك ثلاث أسيرات يخضعن لسياسة الاعتقال الإداري التعسفي في سجن “الدامون”، وهن: سماح حجاوي، ورغد الفنة، وروضة العجمي، استجابة لتعليمات المتطرف بن غفير، هذا يفسر مدى حقد الصهاينة على الأسرى الأبطال، الذين خطوا بصمودهم أروع لوحات الشرف والمجد نسبة للقضايا المنسوبة لهم، سواء كانت من خلال عمليات فدائية نفذوها أو من خلال مقاومة الاحتلال والاستيطان، ولا يزالون قابضين على جمر الصبر والصمود والتحدي حتى نيل الحرية، وأن هذا الأمر يغيظهم أكثر من استشهادهم.
إن سياسة الاعتقال الإداري التي يطبقها الاحتلال الآن ضد الفلسطينيين، تعد موروثاً غير إنساني من دولة الفصل العنصري السابقة في جنوب إفريقيا، فقد كان متبعاً في زمن الانتداب البريطاني، ولا يوجد نظام في العصر الحالي يطبقه سوى الاحتلال الإسرائيلي ضد الفلسطينيين بعدّه سياسة انتقامية وعقابا جماعيا، ويعد جريمة ضد الإنسانية فهو اعتقال دون تهمة أو محاكمة، ويدعي الاحتلال أنه ملف سري وأدلة سرية لا يمكن للمعتقل أو محاميه الاطلاع عليها، ويمكن حسب الأوامر العسكرية الإسرائيلية تجديد أمر الاعتقال الإداري مرات غير محدودة حيث يتم استصدار أمر اعتقال إداري لفترة أقصاها 6 شهور قابلة للتجديد، ورغم مرارة الاعتقال الإداري، هل استسلمت الحركة الأسيرة لضغوطات الاحتلال؟ كلا بل زادتها تألقاً وشموخاً بصبرها ودعمها معنوياً من الشعب الفلسطيني، لكونها أرسخ دعائم مقومات القضية الفلسطينية، وتحتل مكانة عميقة ومتقدمة في وجدانه، لما تمثله من قيمة معنوية ونضالية ورمزية في نفوسهم، فالاعتقالات، وبالرغم من إجراءات الاحتلال التعسفية، فإنها لم ولن توقف مسيرة شعب يصر على أن يستمر في مقاومته حتى استرداد أرضه ونيل حريته ودحر الاحتلال، والسؤال الأهم: هل الأسرى رفعوا الراية البيضاء وتنازلوا عن حقوقهم المشروعة؟ فالاعتقالات أبداً لن تكسر هامات الأسرى العالية، فلا يعقل وجود سلام دون حرية، لأنه لا يمكن لفلسطيني أن يوقف مقاومته ما لم يكن حراً، وهو حق منحه القانون الدولي الإنساني، تماما كما منحه الحق في الدفاع عن أرضه من الاحتلال.
إننا أمام احتلال ينتهك القانون الدولي، ولا يخضع لأي قانون دولي، ولا يستجيب لقرارات المجتمع الدولي، ويتصرف على أنه فوق القانون وخارج نطاق الملاحقة أو المحاسبة على جرائمه ضد الفلسطينيين، ولا يعير القضاء الدولي والجنائية الدولية أي اهتمام، بسبب "الإفلات من العقاب"، الأمر الذي يزيد من غطرسته والتمادي في سلوكه الشاذ والعنصري، لذا فإن قضية الأسرى لا تقف عند روتين وقفات التضامن والشجب والاستنكار، وإن كان هذا أيضاً مطلوباً، لكنه في حد ذاته غير كافٍ، ولا يؤدي الواجب المطلوب تناسباً مع حجم المخاطر التي تهدد حياة الأسرى في سجون الاحتلال، وعليه يتطلب الأمر بذل المزيد من الجهود الضاغطة والمؤثرة في جميع الأصعدة والساحات الإقليمية والدولية كي يدفع المحكمة الجنائية الدولية إلى البدء في فتح تحقيق في الجرائم التي اقترفت بحق الأسرى والمعتقلين الفلسطينيين في سجون الاحتلال الإسرائيلي، ليس هذا فحسب، بل كذلك يجب التحرك على المستوى الفلسطيني بالتوازي مع التحرك الدولي، على أن يكون بين السعي لإجبار الاحتلال على تحرير الأسرى بصفقات التبادل على طريقة “وفاء الأحرار” هذا من جانب، ومن جانب آخر يجب اغتنام كل فرصة ومناسبة تعقد من أجل الأسرى لتوضيح قضيتهم ومدى الظلم الواقع عليهم ونشرها في وسائل الإعلام ووسائل التواصل الاجتماعي للفت أنظار العالم لحقيقة الرواية الفلسطينية التي يحاول الاحتلال تشويهها وتزييف الحقائق، وضرورة التواصل مع كل منظمات المجتمع الدولي والدول الصديقة وأحرار العالم أجمع لفضح جرائم الاحتلال.