فدائي فلسطين من خلفه الأغوار الشمالية، يغوص بين الكثبان الرملية، وقد انبثق من أسفل قدميه دم، إذْ شقّ الأرض بهمته العالية مصارعاً الزمن وطول المسافة، ليصل لبلده التي خرج منها قسراً ويدافع عنها، كانت تلك تفاصيل اللوحة الأحب لقلب الفنانة التشكيلية ميسون سباعنة، كونها روت جزءاً من معاناة عائلتها المستمرة منذ ثلاثة وخمسين عاماً.
تجسد سباعنة (44 عاماً) بريشتها معاناة عائلتها التي لا تعرف مصير عمها "عدنان" حتى اللحظة، منذ مشاركته في عملية فدائية يوم جاء سيراً على الأقدام قادماً من الأردن التي نزح إليها قسراً مع عام 1967م.
استغرقت اللوحة من ميسون أربعة أشهر، حاولت أن تجمع فيها كل ما مرّ عليها في طفولتها من أحداثٍ ومشاعر بسبب مصير عمها المجهول.
تقول: "لم يتركْ جدي وأبي وأعمامي وعماتي وسيلة يمكن أن يحصلوا بها على معلومةٍ عنه إلا واتبعوها دون جدوى، أرادوه حيًّا أو ميتاً، فقط أن يعرفوا أين هو، وإن كان قد استشهد أم اعتقل أم ماذا؟، بحثوا في كل مكان، لكن وقفت أمامهم عقبة مقبرة الأرقام التي لا يقبل الاحتلال الإفصاح عن هويات مَنْ فيها لأي جهة كانت".
تنطلق ميسون في لوحاتها التصويرية من معاناة العائلة التي وعتها منذ صغرها، "ففي إحدى المرات تناهى لمسامع جدي أن عمي فاقدٌ للذاكرة وموجود في بئر السبع، ومن شدة الفرح ذبح عجلاً ووزعه على الفقراء والمحتاجين، لكن فرحته لم تدمْ طويلاً فقد تبين أن الخبر ليس صحيحاً".
مقبرة الأرقام
وتمضي بالقول: "مات جدي وأعمامي وعماتي، وبقي أبي وعمتي (ظريفة) التي لا تزال تحلم بأن يدق عدنان الباب عليها عائداً من غيابه الطويل، عندما عقدتُ العزم على تجسيد معاناة عائلتي اكتشفتُ أنّ هناك أربعين فدائيًّا آخرين ما زالوا مفقودين حتى اللحظة، بعدما جاؤوا من الأردن لتنفيذ عمليات فدائية بالضفة، فمنهم من استشهد، وآخرون قد اعتُقلوا أو ضلوا الطريق، ومن استشهد منهم ما زالت جثثهم في مقبرة الأرقام".
زادت هذه المعلومة إصرار ميسون على تجسيد معاناة العائلات بريشتها، ولفت نظر العالم إلى الجريمة اللاإنسانية التي ترتكبها سلطات الاحتلال الإسرائيلي بحق الفلسطينيين، المتمثلة بـ"مقبرة الأرقام" التي تحاول من خلالها إذلالهم بحرمانهم من معرفة مصير أبنائهم، أو توديعهم ودفن جثثهم".
كانت لوحة العم المفقود جزءاً أصيلاً من المعرض الفني الثالث لـ"ميسون"، الذي حمل اسم "فدائي عبر الغور" لتكون جنباً إلى جنب مع لوحة الشهيد الأسير كمال أبو وعر، الذي فقد حياته من جراء الإهمال الطبي في سجون الاحتلال، وهو ابن بلدتها "قباطية".
تقول: "كان الشهيد أبو وعر يتمتع بشعبية عالية ومكانة كبيرة في نفوس أهل القرية، ما جعلهم يتهافتون إلى معرضي لرؤية اللوحة التي أجسده فيها".
وتتابع: "هذا نجاح كبير لمعرضي الثالث والأول في بلدتي قباطية، إذْ أحبطني الكثيرون بأن أهل القرية لا يعيرون اهتماماً للفن، وأنهم لن يتجاوبوا مع معرضي خاصة أنني امرأة، لكنني صممتُ على تنظيمه بين أهلي، ولاقى نجاحاً كبيراً وتحول لعرس وطني".
نجاح المعرض دفع ميسون لأنْ ترد الجميل لأهل قريتها بالعمل على معرض فني رابع خصصته للأسرى من أصحاب المحكوميات العالية من أبنائها، "صدمني أنني وجدتُ عشرين شاباً من القرية محكومين بعدة مؤبدات، جمعتُ صوراً لهم قبل وبعد السجن، لا أحد يمكنه أن يصدق أن هذا هو الشخص ذاته، قمة الألم أنْ تضيع سنين عمر شبابنا وراء قضبان المحتل بأحكامٍ تعسفية خيالية".
وتشير إلى أنها وجدت ترحيباً كبيراً من ذوي الأسرى الذين وصلتهم الرسالة بأنّ هناك من يتذكر أبناءهم وتضحياتهم، "معارضي غير ربحية، أريد فقط من خلالها توصيل رسالتنا الوطنية ومعاناتنا، فلا أقبل بيع أي لوحة مهما كان الثمن، هدفي أن أجوب بلوحاتي العالم ليطَّلع الجميع على معاناتنا وممارسات الاحتلال الإجرامية بحقنا".
سجن كبير
وتتابع: "حتى بين مدن الضفة الغربية يصعب عليّ التنقل بلوحاتي وعرضها في مدن أخرى غير جنين، فنحن في سجن كبير يتحكم الاحتلال في حركاتنا وتنقلنا، ورغم ذلك فإنني أعمل الآن على عرض لوحاتي في دول عربية أخرى ستكون هي الأردن والكويت".
عادت ميسون للفن الذي عشقته منذ صغرها قبل قرابة ست سنوات، "تعلمتُ الفن في مرسم جامعة اليرموك بالأردن، حيث يوجد مرسم مجاني في كل جامعة أردنية، يتيح لعشاق الفن من الطلاب الذي لا يدرسون تخصصات فنية بأن يستثمروا وقت فراغهم في تنمية موهبتهم على أيدي مختصين".
وبعد عشرين عاماً من العودة إلى فلسطين والزواج وإنجاب خمسة من الأبناء والعمل كمدرسة للرياضيات، ظلّ الحنين للعودة إلى الفن يراودها "برغم كل ما أنجزته في حياتي، إلا أنني كنتُ أشعر أن هناك شيئاً ينقصني وهو الرسم، فقررتُ نفض الغبار عن موهبتي وتسخيرها لقضايانا الوطنية".
وتلفت إلى أن المعرض الأول حمل اسم "فلسطين في صورة"، والثاني "رحلة" جسدت فيهما عدداً من القضايا الوطنية كالقدس والأسرى واللجوء، "لكنني وقفتُ عاجزة أمام دماء الشهداء والمجازر التي يرتكبها الاحتلال في غزة، فكانت أكبر من أن أجسدها بريشتي".