قائمة الموقع

شواهد قبور تروي نضال العراقيين ضد "الدولة المارقة"

2023-08-09T09:59:00+03:00
مقبرة الشهداء العراقيين

ما زالت شواهد قبور الجنود العراقيين الذين استشهدوا في أثناء مقاومتهم لقوات الاحتلال الإسرائيلي تشهد على الدماء العربية التي أُريقت على أرض فلسطين؛ دفاعاً عنها والحيلولة دون وقوعها بأيدي المستوطنين، كتفاً إلى كتف مع المقاتلين الفلسطينيين، حيث اختلطت الدماء العربية الفلسطينية على أرض مدينة جنين التي ما زال أهلها يحفظون "الجميل" لأشقائهم العراقيين بالاعتناء بالمقبرة والمحافظة عليها.

تقع المقبرة في أرض سهلة منبسطة تضم رفات 50 جنديًّا من الشهداء العراقيين، ويتوسطها نصب تذكاري مبني على ثماني درجات، ومكتوب على واجهته الأمامية "شهداء جحفل الملكة عالية"، من الجيش العراقي في معركة جنين بتاريخ 26 رجب 1367 المصادف 3 حزيران/ يونيو 1948م، وعلى الجهة الجنوبية رُسِم شعار الدولة العراقية.

كان الجيش العراقي أحد الجيوش العربية التي هبّت للدفاع عن فلسطين عام 1948م، وكان له الدور الأكبر في تحرير مدينة جنين شمال الضفة الغربية، بعد معارك حامية الوطيس، قدّم خلالها الجنود العراقيين أرواحهم رخيصة على ترابها، ما جعل أهل جنين يكنون بـ"الوفاء" لهذه الدماء الزكية التي أريقت على أرض فلسطين.

أحد جيران المقبرة -والذي لا يبعد بيته عنها سوى خمسين متراً- المرشد التربوي حسان نزال، والذي أخذ على عاتقه الحفاظ على هذا الإرث ونقل حكايته للأجيال الجديدة كما وصلت إليه من آبائه وأجداده، فهذه المقبرة تروي قصة معركة دارت بين الاحتلال الإسرائيلي من جهة والمقاتلين الفلسطينيين والجنود العراقيين والأردنيين من جهة أخرى.

تحرير جنين

فبعد احتلال المستوطنين اليهود لمدينة جنين أثناء نكبة عام 1948م، وإحكام سيطرتهم عليها من جهات الشمال والشرق والغرب تاركين الناحية الجنوبية مفتوحة ليهجر الفلسطينيين المدينة طوعاً، استعان المقاتلون الفلسطينيون بالجيش العراقي الذي أرسل حامية كبيرة "فرقة من الجيش" كانت موجودة في مدينة نابلس.

وفي المنطقة التي تتوسط مدن "نابلس" وطولكرم وجنين دارت معركة حامية الوطيس بين الجنود العراقيين والأردنيين والمقاتلين الفلسطينيين من جهة والاحتلال من جهة أخرى في الثاني من يونيو لعام 1948م، على مشارف بلدة قباطية.

ووفق نزال، قصفت قوات الهاجاناه الإسرائيلية المنطقة الشمالية من جنين، لكن المقاتلين الفلسطينيين والعرب استمروا في المعركة حتى وصلوا إلى قلب مدينة جنين، وتمكنوا من تحريرها، مشيراً إلى أن ابنة "بن غوريون" (مؤسس دولة الاحتلال) كانت من بين القوات الإسرائيلية المشاركة، وقتلت عددًا كبيرًا من الفدائيين وفق الشهود المشاركين في المعركة حينها.

واستدرك بالقول: "لكن الفدائيين استطاعوا الالتفاف عليها ومباغتتها وقتلها، من ضمن قرابة ثلاثمائة قتيل من عصابات الصهاينة والهاجاناه"، ما دفع "بن غوريون" للتفاوض مع العراقيين على جثتها، فكان شرطهم أن يتراجع عن جنين قرابة ثلاثة كيلومترات هوائي، فبقيت جنين خارج الأراضي المحتلة عام 48.

وبعد انجلاء غبار المعركة أخذ الفلسطينيون بتفقد الجثث ليجدوا ما يزيد على خمسين شهيداً عراقيًّا ليبادر حينها أحد وجهاء المدينة ويدعى أديب نزال للتبرع بقطعة أرض مساحتها دونم لتكون مقبرة لهؤلاء الشهداء الذين سيدفنون بعيداً عن ذويهم، "بعضهم عرفت أسماؤهم، وآخرون لا تزال هويتهم مجهولة حتى اليوم، وهم من مختلف الأعراق والملل في العراق، فمنهم السني والشيعي والتركماني وابن الجنوب وابن الشمال".

محاولة للتزوير

بعد نكسة حزيران عمل الاحتلال الإسرائيلي على تغيير هوية المنطقة التي تقع فيها المقبرة عبر إقامة نصب تذكاري يحيي ما يسمى ذكرى القتيل الإسرائيلي، بوضع دبابة أردنية أعطبها أثناء قتاله عام 67 للجيش الأردني.

يقول نزال: "كنتُ صغيراً في السن، كانوا يجلبون المجندين الجدد ليطلعوهم على ما يزعمون أنها بطولات لجنودهم حتى تم إزالة هذا النصب عند قدوم السلطة الفلسطينية عام 1994م".

ومنذ ذلك الوقت ظلّت المقبرة مزاراً للشخصيات العراقية السياسية والأدبية، وخلد العراقيون هذه الذكرى من خلال قصيدة كتبها الضابط العراقي محمود شيث خطاب في حفل وداع جنود جيشه بعد انتهاء حرب 1948م، جاء فيها: 

هذي قبورُ الخالدينَ فقد قَضَوْا                        شهداءَ حتى يُنْقِذوا الأوطانا

قد جالدوا الأعداءَ حتى استُشْهِدوا                     ماتوا بساحاتِ الوغى شجعانا

ويتعهد أهل قباطية (قضاء جنين) – وفق نزال – المقبرة بالعناية والاهتمام، فيقومون بدهنها وتعشيبها من حينٍ لآخر، وكل من يمر من مدخل جنين الجنوبي يقرأ الفاتحة على روح شهداء العراق (حيث تبعد المقبرة اثنان ونصف كيلو متر عن المدخل).

فالعراق منذ النكبة الفلسطينية وحتى نهاية حكم الرئيس العراقي الراحل صدام حسين كانت من أهم الداعمين للشعب الفلسطينيين ولقضية العرب الأولى، و"بقيت المقبرة شاهدة على هذا الدور العراقي الكبير، لذلك فإن الحفاظ على هذا الشاهد التاريخي أمرٌ مهم في الحفاظ على الوعي الجمعي الفلسطيني والعربي والتأكيد على الوحدة العربية تجاه قضيتهم الأولى فلسطين".

اخبار ذات صلة