تسعى (إسرائيل) إلى أن تبقى السلطة الفلسطينية ضمن معايير اللجنة الرباعية الدولية، التي تجعل من أمن الكيان مهمة رئيسة لوجود سلطة فلسطينية منزوعة السلاح والسيادة والحدود، وكأنها مهمة حكم ذاتي بصبغة سياسية مخصصة للتخدير الدولي والاستفراد المحلي، وعملت (إسرائيل) وأنظمة عربية برعاية أمريكية في كثير من الجهود والمبادرات واللقاءات والمؤتمرات على حماية الهدف الرئيس لفكرة أوسلو، وما انبثق عنها من جسم أطلقوا عليه السلطة الفلسطينية.
وتطور هذا السلوك إلى اغتيال الزعيم الراحل ياسر عرفات، واستحداث منصب رئيس الوزراء، وسحب صلاحيات لصالحه، وتعيين محمود عباس في ذلك الموقع، وقمم سبقت ذلك، وهي "واي ريفر" و"كامب ديفيد" والعقبة وشرم الشيخ ولحقتها قمة العقبة بين عباس و"أرئيل شارون" وتلتها "أنابوليس" ومدريد، وقمم أمنية، آخرها شرم الشيخ والعقبة، وكل ذلك سلخ للسلطة عن أن تلبي طموح الشعب والفصائل، وتعزيز أنها شركة أمنية عمادها التنسيق الأمني، وهذا ما دأب عليه الجنرال الأمريكي "دايتون" لسنوات طويلة.
اقرأ أيضا: اجتماعات الأمناء العامين ما بين الماضي والحاضر
في شكل السلطة الحالي تظهر معالم انتصار نتنياهو أو حكومة الاحتلال عامة، فهي غير منتخبة، والفساد منتشر فيها، والإقصاء عنوانها، وحتى حركة فتح بمضمونها الفكري مغيبة عنها، والأهم من هذا كله؛ لا سيادة معنوية فيها ولا جغرافية ولا سياسية، حتى المناهج والإعلام ورخص البناء والاستيراد والتصدير والسفر يخضع لقرار الاحتلال، وصولًا إلى الهوية الشخصية التي تغطيها اللغة العبرية أكثر من العربية.
سلطة مجردة من كل تطوير، إلا دعم وإسناد الأجهزة الأمنية، وبمتابعة من الاتحاد الأوروبي وأمريكا، وهذه السلطة لا رقابة برلمانية عليها ولا حتى فصائلية ولا قرار وسيادة ورأي شعب.
هكذا تريدها (إسرائيل) عاجزة فقيرة غير شرعية حتى يستمر ابتزاز من يديرها ويسميها مشروعًا وطنيًّا، وحتى يصر على تسميتها دولة فلسطين، بينما في كل أروقة العالم والمعابر تسمى السلطة الفلسطينية.
نعم يصر الاحتلال وينجح في ذلك لأنه يستخدم بذكاء توجيه هذه السلطة تارة بالابتزاز وأخرى بسراب السلام، فمن أزلامها من فهم اللعبة، وتحدث عن الكارثة، ومنهم من أخذته العزة بالإثم، وآخرون قالوا لا مناص من الخروج من شكل الشركة الأمنية إلا بالشراكة الوطنية.
هنا بيت القصيد الذي لا يمكن أن يتجاوز قواعده من ارتهن قراره بفكرة وجود السلطة، في الوقت الذي لا يقبل به، ولا بقواعده من عزز حياته بفكرة وجود الشعب وحق الأرض والحرية.
محطات عديدة كانت فيها الحالة الوطنية أقرب للتصالح منها للانقسام، وللوحدة من الشرذمة، وللقرار الحكيم من العشوائية، والاجتماع من التفرد والإقصاء، فكانت مكة والجزائر واليمن وتونس والقاهرة عدة مرات والشاطئ وقطر وغيرها، كلها اصطدمت بفكرة بسيطة مرتبطة بقرار عميق، وهو هل السلطة ستبقى مقاولًا أمنيًّا أم مقاومًا وطنيًّا؟ هل ستكون شراكة جامعة أم تبقى شركة أمنية؟
وتصطدم الأمنيات وتهدر المبادرات ويستنزف الشعب والمقاومة والجبهة الداخلية، ويتأخر الحصاد، وتصبح الكرة خارج كل الملعب وليست في مساحة أحد، ويبقى الاحتلال مرتاحًا لنجاحه بأن تصميم هذه السلطة لم يخرج عن المخطط له.
مؤخرًا بات الاحتلال أمام مأزق ومغامرة بين التخلي عن السلطة كجهة أمنية بعد سحقها سياسيًّا، وبين تحجيمها لتكون مهمشة وشكلية تتلاشى مع الزمن وكل هذا لنقاط مهمة؛ أولها دعم مشروع الاستيطان وإلغاء فكرة "الدولتين"، وصولًا إلى منع سيادة فلسطينية، لأن السيادة تعني وجودًا دوليًّا يتطلب حدودًا ومستلزمات وواجبات وحقوقًا، وهذا ما لا تريده (إسرائيل).
ثانيًّا- التوافق الفلسطيني سيحرر السلطة من كل ابتزاز، وسيعمل على ترسيخ ما لأجله يسعى الفلسطيني، ويدمر ما لأجله الإسرائيلي وافق عليها، فمتغيرات الميدان تعتبر الأخطر في تاريخ الكيان، مقاومة تسيطر وتتوسع وتناور وجبهات تسند وتعد وتستعد، والضفة الغربية التي راهن الاحتلال على أن السلطة ستكون اللجام لثورتها الآن تتململ ولم تعد في مربع التفريز.
خطوات تسابق بعضها البعض، فبعد أن كانت المصالحة والشراكة خيارًا يطلب من الأطراف أخذه وتطبيقه لمصلحة الشعب والحقوق، وبعد أن كان يستخدمه البعض تارة مناورة وفاشلة دائمًا، وتارة خدعة لتجديد الشرعية وتارة للتخدير، بات هذا الخيار واجبًا، وبات الطريق الوحيد الذي لا بد من سلوكه لمن هو وطني أو كان يظن أنه بمفرده سيحرر أو من استفاق ضميره لوقف المهزلة.
وفي نفس الوقت سيكون هذا الطريق هدف المتربصين، الذين منذ البداية يعلمون لماذا وكيف ومن يوجه السلطة؟
السلطة الآن في مخاض فصائلي ليتم الحسم حول مستقبلها؛ فلا رمادية هنا في نظرتها في ظل تمادي الاحتلال وفشل الإقصاء، فإما شراكة وطنية يبنيها الكل المقاوم والمخطئ المتراجع عن خطأه والشعب، وإما أن تبقى شركة أمنية عنوانها سحق مقاومة وإقصاء شعب ورأيه وفصائله.
فرصة تاريخية ومنعطف لا يمكن فيه نفاق سياسي أو مماطلة وهمية، بقدر ما يحتاجه الموقف من واقعية تتعاطى من مخاطر لم تبقِ خيارات، بل باتت تحتاج واجبات وتطبيقات.