قبل تسع سنوات، وقف الشاب جمعة الغول متصلبًا من هول مشهد لا يزال يجثم على ذاكرته، حينما رأى طواقم الإسعاف تحمل جثمانَي والديه إسماعيل وخضرة على حمالة المسعفين، ثم انتشالها جثامين أشقائه أسماء وهنادي ومحمد ووائل وأطفال الأخير؛ مصطفى، وإسماعيل، وملك، الذين نزحوا مع والدهم الذي يسكن بالمنطقة الشرقية لرفح، ليحتموا في بيت جدهم داخل مخيم (بلوك O) للاجئين، ولم يدركوا أن الاحتلال كان يجهز لهم أكفانًا جماعية.
حدثت القصة فجر 3 أغسطس/ آب 2014، حينما استيقظ جمعة الغول (40 عامًا) على أصواتِ اهتزازات متتالية وقصف عشوائي عنيف متواصل أفزع سكان محافظة رفح جنوبي قطاع غزة، لم ترحم تلك القذائف منزل عائلته المسقوف بـ"الإسبست".
هرع نحو منزل عائلته الذي تحول إلى كومة ركام، ليجد تسعة من أفراد عائلته قد استشهدوا، أصغرهم الرضيع مصطفى الذي لم يتجاوز عمره 23 يومًا، إذ ولد خلال الحرب واستشهد فيها، وهو توأم مع شقيقه إبراهيم الذي أصيب بجراح لا يزال يعاني آثارها حتى اليوم، ليكون شاهدًا على صاروخ فرق توأمه كما فرق العدوان أفراد العائلة.
اقرأ أيضاً: تقرير 9 سنوات والمعاناة لا تزال تلاحق "متضرري عدوان 2014"
أصوات القصف والإسعافات وبكاء الناجين أمامه تتدفق من الذاكرة، وتفتح جرحًا لم تغلقه سنوات مضت، تنصت صحيفة "فلسطين" لبقية التفاصيل: لم تكن الفاجعة بالاستشهاد فقط، بل بإسعاف المصابين، فمستشفى أبو يوسف النجار كان مغلقًا بسبب الاجتياح، فنقلناهم إلى المستشفى الكويتي (مستشفى خاص)، وضعوا ثلاثة شهداء أطفال في ثلاجة "البوظة"، وهذه الصورة انتشرت وعبرت عن حجم المأساة التي عشناها.
جنازات سريعة
عاش الغول لحظات صعبة، فبسبب صعوبة الأوضاع أقيمت جنازة الشهداء داخل صندوق حافلة نقل بضائع، وجرى الصلاة عليهم أثناء سيرها، وجرى دفنهم بعد ساعتين من الحدث.
وبعد مواراتهم الثرى، عاش معاناة أخرى في البحث عن المصابين، يستذكر وأنياب وجع تلك اللحظات مغروسة في قلبه: "ذهبت لتفقد الجرحى وتنقلنا بين مستشفيات: الكويتي و"الأوروبي" برفح، فلم نجد أبناء أخي إلا بمستشفى ناصر بخان يونس".
وفجر الثامن من يوليو/ تموز 2014، بدأ العدوان الأوسع على غزة، وارتكب جيش الاحتلال حسب ما رصدته اللجنة العربية لحقوق الإنسان نحو 144 مجزرة بحق عشرات العائلات، من أبرزها مجزرة رفح التي وقعت مطلع أغسطس خلال فترة تهدئة معلنة، أدت إلى استشهاد أكثر من 200 فلسطيني، وفقدت نحو 23 عائلة ثلاثة أفراد فأكثر من أبنائها خلال القصف.
وفي 20 يوليو، قصفت مدفعية الاحتلال حي الشجاعية شرق مدينة غزة بشكل عشوائي ومكثف، ما أدى إلى ارتقاء 74 شهيدًا، بينهم 17 طفلًا، كما ارتكب المحتل مجزرة أخرى في 30 يوليو بسوق الشجاعية ارتقى خلالها 17 مواطنًا، وفي 24 يوليو استهدف مدرسة تابعة لوكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين "أونروا" شمالي القطاع، أدت لاستشهاد نحو 16 نازحًا.
وخشيةً من القصف المتواصل على حيي الشجاعية والتفاح شرق مدينة غزة، نزح إسلام ناهض البطش الذي لم يتجاوز عمره آنذاك 15 عامًا، مع والدته وأشقائه إلى منزل أقربائهم في حي "الصبرة"، وبقي والده وأعمامه وأبناء عمه في منزلهم.
مع حلول التاسعة مساءً يوم 12 يوليو 2014، تواردت الأنباء عن استهداف لعائلة البطش، وصل الخبر إلى إسلام وأشقائه الذين عاشوا لحظات صعبة وهم لا يستطيعون الذهاب إلى المنزل أو المشفى لمعرفة ما جرى.
بعد ساعة من الانتظار والترقب، جلس إسلام قرب الراديو، محاولا الوصول إلى أي تفاصيل، حتى أصغى بدموع عينيه والمذيع يتلو اسم والده بين 19 شهيدًا من عائلة البطش، أعلن استشهادهم في مجزرة استهداف ديوان العائلة بعدة صواريخ إسرائيلية.
مع بزوغ شمس صباح اليوم التالي غادر الطفل المنزل الذي نزح إليه، وذهب إلى معاينة المكان المستهدف، يطل على المشهد وهو يروي لـ"فلسطين": "وجدت البيت مفروشًا بالركام، مسويًا بالأرض، حتى أن خمس من النساء الشهداء لم نعثر على أي أشلاء لهم حتى يومنا هذا".
تمر ذكرى العدوان الإسرائيلي على قلب إسلام بكل ما تحمله من وجع الفقد والعيش حياة اليتم مبكرًا، يتذكر مشاهد الدمار التي لا تزال عالقة في ذاكرته، ليحمل قلبه الصغير كل هذا الوجع، راثيًا فقد والده بحزن ملأ فمه: "الأب عمود البيت والمعيل له، كبرت على فقد لم يعوضه أي شيء".
رئيس البلدية الشهيد
في قصة أخرى، فتح رئيس بلدية البريج آنذاك أنيس أبو شمالة منزله لاستقبال النازحين من أقاربه في المناطق الشرقية لمخيم "البريج" للاجئين وسط القطاع، ومع اشتداد القصف الإسرائيلي الذي اقترب من المنزل نزل سكان البيت والنازحون من الأطفال والنساء إلى الطابق الأرضي.
لم ينقطع "أبو شمالة" عن أداء دوره ومحاولة تلبية اتصالات المستغيثين من المواطنين، ومحاولة فتح الآبار على الرغم من قصف الاحتلال لإحدى سيارات البلدية، إضافة إلى تهدئة روع الضيوف.
في تلك الليلة التي وافقت السابع والعشرين من يوليو، غفا نجله محمد (30 عامًا) ولم تمر سوى عشر دقائق حتى قطع غفوته صوت انفجار، فتح عينيه ليجد نفسه محاصرًا في بقعة سواد دامس، وبين ردم منزله وغبار غطى جسده، فأدرك أن منزله المستهدف.
لربع ساعة ظل يحاول إزالة بعض الركام المحيط به منتظرًا أي نجدة خارجية، حتى اخترق مسامعه صوت والدته وكان بمثابة حبل أملٍ، وهي ترشد طواقم الدفاع المدني لمكانه، وجرى إسعافه وإنقاذ كل الأطفال، واستشهد والده؛ رئيس البلدية، وجده عبد الرحمن، وابن عمه محمد محمد أبو شمالة.
"جرى القصف بلا إنذار، وجدنا أنفسنا تحت الردم، لولا لطف الله لاستشهد أيضًا 25 طفلًا كانوا في منزلنا"، وبعد ساعة من إجلاء الشهداء والمصابين، عاد الاحتلال وقصف المنزل مرةً أخرى، ما أدى إلى تسوية ما بقي منه بالأرض... بصوت يثقله جرح الذاكرة يصف محمد أبو شمالة ما جرى بأنه "إجرام لا مثيل له".
لم تمسح مرور السنوات التسع آثار الجرح، تحضره الدموع في كل محاولة منه لاسترجاع ذكرياته مع والده، يقول: "وأنت تراجع تلك الذكريات فأنت تتأمل وتبكي، تستذكر ذكريات الطفولة مع والدك فتشعر أنك فقدت أغلى ما تملك".