تبدو الجريمة بالداخل المحتل في ظاهرها حرب بين عصابات أو عائلات على مصالح ومناطق نفوذ ومبالغ هائلة، لكن خلف المشهد ينشط دور مخابرات الاحتلال التي تستعين بعصابات الجريمة كأداة ضاربة، تستخدمها لتفكيك الوسط الفلسطيني مجتمعيًّا وسياسيًّا، بهدف حرف بوصلته النضالية عن المطالبة بحقوقه اليومية أو الوطنية بإشغاله بملف الجريمة.
عبر محطات نضالية عديدة خاضها أهالي الداخل المحتل ضد حكومات الاحتلال المتعاقبة، أثبتوا تمسكهم بهويتهم الفلسطينية، وتصدوا لمخططات الاحتلال التهويدية في النقب والجليل والمثلث خلال مواجهات عديدة، لم تنجح كل أساليب الاحتلال في سلخ الجيل الفلسطيني عن هويته، فلجأ إلى أسلوب الجريمة كأحد الأدوات الرامية إلى حرف قطار النضال الفلسطيني عن سكته.
اقرأ أيضاً: "حماس" تحمّل الاحتلال المسؤولية عن تفشي الجريمة في الداخل المحتل
يقول الباحث في الشأن الإسرائيلي إيهاب جبارين: إن قضية الجريمة واحدة من الأمور التي تستعملها دولة الاحتلال ومؤسساتها لكي تحيّد الصوت النضالي الفلسطيني بالداخل المحتل.
ويشير جبارين في حديثه لصحيفة "فلسطين" إلى أن الجريمة بدأت منذ هبة أكتوبر/ تشرين أول عام 2000، وقال رئيس مخابرات الاحتلال "الشاباك" آفي ديختر: إنهم "سيجعلون الفلسطينيين ينشغلون بأنفسهم"، وكان واضحًا تزايد آفة الجريمة.
نتيجة غير متوقعة
حاول الاحتلال بهذه السياسة، وفق جبارين، جعل الفلسطيني مشغولًا بأمنه الشخصي، بهدف تحييده عن مسار النضال الوطني، لكن النتيجة لم تكن كما تتوقع مؤسسات الاحتلال الأمنية والسياسية والعسكرية، معتقدًا أن هبة "الكرامة" التي حدثت في مايو/ أيار 2021 ضربت بعرض الحائط كل مخططات الاحتلال الرامية لتخفيف الحمى النضالية بالداخل.
ويعتقد جبارين أن الضغط والكبت وارتفاع معدلات الجريمة في الداخل لمسارات قياسية، قد يؤدي لانفجار بوجه دولة الاحتلال.
ووصلت حصيلة ضحايا جرائم القتل في الداخل الفلسطيني المحتل منذ مطلع العام الجاري إلى 121 ضحية، في حين بلغت عام 2022، 109 قتلى بينهم 12 امرأة؛ وفي عام 2021، تم توثيق أكثر من 111 جريمة قتل في رقم قياسي غير مسبوق، و113 جريمة عام 2020، وبلغت حصيلة جرائم القتل منذ انتفاضة القدس والأقصى عام 2000 إلى نحو 1900 جريمة قتل.
وحول هدف الاحتلال من استعمال أدوات الجريمة في محاربة النضال الوطني بالداخل، يقول: "ما لم تستطع مؤسسات الاحتلال استخدامه، فإنها تعطي شرعية لقوات الجريمة لاستعماله كما يجري بدول العالم، التي تعد منظمات الجريمة الذراع التنفيذية لقوى الاستخبارات، وتستخدمها كمرتزقة مقابل غض الطرف عن أفعالهم".
ويدلل على ذلك باستحضار تصريحات أدلى بها مسؤولون في شرطة الاحتلال، اعترفوا بأنهم عندما يعتقلون في الصباح بعض عناصر الجريمة، فإن "الشاباك" يخلي سبيل المجرمين في المساء.
محطات نضالية
ومنذ النكبة الفلسطينية عام 1948، لم يتوقف النضال الفلسطيني، وكان هناك محطات بارزة في النضال، وكلها حافظت على الهوية الوطنية، وأفشلت مخطط التهويد، وأكدت ارتباط فلسطينيي الداخل بهويتهم الفلسطينية، وفشل مخططات الاحتلال في سلخهم عنها، منها أحداث يوم الأرض، تعاقبت عليها أربعة أجيال فلسطينية بالداخل، كل جيل كان له بصمته النضالية، وفق جبارين.
وتعود أحداث يوم الأرض إلى 30 آذار/ مارس عام 1976، عندما هب فلسطينيو الداخل، ضد استيلاء الاحتلال على نحو 21 ألف دونم من أراضي القرى الفلسطينية بمنطقة الجليل، ومنها عرابة وسخنين ودير حنا وعرب السواعد وغيرها، لمصلحة إقامة المزيد من المستوطنات، في إطار خطة "تهويد الجليل"، واستشهد خلالها 6 فلسطينيين.
ويشير جبارين إلى أن المحطة التالية كانت "هبّة أكتوبر" مطلع أكتوبر/ تشرين الأول عام 2000، حين قدموا 13 شهيدًا، خلال قمع الاحتلال احتجاجاتهم على اقتحام رئيس وزراء الاحتلال السابق- أرييل شارون لساحات المسجد الأقصى، إضافة إلى التمرد على سياسة العصا والجزرة التي اعتمدتها حكومات الاحتلال المتعاقبة، لاحتوائهم وسلخهم عن الشعب الفلسطيني وقضيته.
ومن بين المحطات الأخرى، حسب جبارين، اندلاع مظاهرات عام 2009 مناهضة لتهويد الاحتلال بمناطق بمدينة "أم الفحم، إضافة إلى مظاهرات اندلعت عام 2013 للتصدي لمخطط "برافر" الذي هدف إلى مصادرة نحو 800 ألف دونم من أراضي النقب، وتهجير نحو 50 ألف فلسطيني، وهدم 35 قرية، وعمَّ الإضراب في مدن فلسطينية، كان نتيجته فشل المخطط، وصولًا إلى أحداث "هبة الكرامة" في مايو/ أيار 2021.
وفي مايو/ أيار 2021، كانت مدن الداخل المحتل على موعد مع "هبة الكرامة" بالتزامن مع معركة "سيف القدس"، التي اندلعت إسنادًا لأهالي القدس المحتلة، وحماية للمسجد الأقصى، وحينها كان لشباب اللد دور كبير في التصدي لاعتداءات شنتها جماعات كبيرة من المستوطنين على المدينة.
تفكيك "المناعة الداخلية"
وتسعى الجريمة وفق المختص في الشأن الإسرائيلي صالح لطفي، إلى تفكيك ما وصفه بـ "المناعة الداخلية" في الداخل المحتل على الصعيد الاجتماعي والمدني والعشائري، وذلك لتحقيق أهداف سياسية لحكومة الاحتلال.
ويقول لطفي لصحيفة "فلسطين": إن "الاحتلال يحاول جعل الجريمة أمرًا عاديًّا في حياة الناس، فحاليًّا يتم تسجيل حالة قتل كل قرابة 35 ساعة"، معتبرًا، الجريمة خطرًا تكوينيًّا في بنية المجتمع تجاه المستقبل، تهدف إلى الدفع بالعائلات التي تخاف على أبنائها ولديها مقدرة مالية للسكن بمناطق الضفة أو بمحيط القدس أو السفر لدول أوروبية.
ويضيف: "مؤسسة الاحتلال تعتبر أن كل عائلة تهاجر من الداخل، أو تنتقل للعيش بمنطقة أخرى بفلسطين إنجاز للمؤسسة الإسرائيلية، الأمر الثاني أن الجريمة تعمل على تفكيك المجتمع الفلسطيني من الداخل بشقيه الاجتماعي والسياسي، وإضعاف دور الهيئات والأحزاب العربية، وقد تؤسس لمراحل أسوأ خلال الفترة المقبلة".
ولا ينفصل عن تصاعد معدلات القتل بالداخل، استهداف حكومة الاحتلال "للجنة المتابعة العربية"، وتواصل الدعوات إلى إخراجها عن القانون، وجعلها منظمة "محظورة"، على غرار ما جرى مع الحركة الإسلامية، وهذا الفراغ يشكل خطرًا على حيثيات الوجود الفلسطيني والنضالي، التي تسعى حكومة الاحتلال لتفكيكها من خلال الجريمة، وفق لطفي.
وينبه لطفي على أن الهيئات الوطنية بالداخل تستشعر بهذا الخطر، وتداعت إلى رصِّ الصفوف لحل الأزمات ومواجهة تصاعد الجريمة، وتعمل بعض القيادات الوطنية ضمن مكونات الإصلاح التربوي، فضلًا عن عملها السياسي لتكوين حالة جمعية تواجه الجريمة.
ويشير إلى أن حكومة الاحتلال تستعين بمنظمات الجريمة التي تشكل أدوات ضاربة تستخدمها مخابرات الاحتلال، لضرب المجتمع من الداخل، في موازاة ذلك تعتقل حكومة الاحتلال أبناء الداخل الذين يدافعون عن قضاياهم، وتحيلهم إلى الاعتقال الإداري كما جرى مع معتقلي هبة الكرامة، الذين تلاحقهم محاكم الاحتلال، وتفرض إقامة أو حظر عليهم كما يجري مع الشيخ رائد صلاح، وغيره من القيادات.