على بعد 150 مترًا من منزله، مساء الجمعة الماضية، كسَّرت أصوات رصاص كثيف هدوء سماء بلدة "سبسطية" قضاء نابلس، واقتحم صداها بيت "هاني مخالفة" الذي تابع الحدث من شرفة بيته، وكأنه أمام "فيلم رعبٍ"، شاهد خطوط رصاصات تنطلق من بنادق تسعة جنود إسرائيليين، وهي تنهال على سيارة منعه سواد الليل من تحديد لونها.
أمسكَ مخالفة هاتفه المحمول، واتصل بنجله الأكبر فوزي (18 عامًا) الذي خرج من البيت قبل الحدث بدقائق للنزول لمركز البلدة برفقة صديقه محمد مخيمر، في المرة الأولى رن هاتفه دون أن يرد، وفي الاتصال الثاني وجده مقفلاً.
لم تساوره الشكوك نتيجة إغلاق الهاتف، فدائمًا ما يغلقه ابنه بسبب نفاد البطارية، فاتصل على جيرانه ليسألهم عن لون السيارة، وهل "اتضح اسم من بداخلها"؟، لكن فوهات بنادق الجنود المصوبة نحوهم منعت الجميع من الاقتراب.
اقرأ أيضاً: بالصور تشييع جثمان الشهيد فوزي مخالفة في سبسطية
على مدار ساعةٍ منع خلالها جنود الاحتلال سيارات الإسعاف الفلسطينية من الاقتراب لإسعاف المصابين، لم يهدأ قلب مخالفة الأب من التفكير عن مصير من بداخلها.
كان القلقُ يتلاعب به ويدفعه لسؤال الجيران عن أسماء من بداخل السيارة، وكأنَّ قلبه يستشعر شيئًا لم تتضح تفاصيله له، حتى تقابلت عيناه مع اسم نجله منتشرًا على صفحات مواقع التواصل الاجتماعي، لم يصدق الحدث حتى الآن "لا يمكن تخيل مشهدًا تراه أمامك، ثم يتبين أن الشهيد ابنك".
كمين موت
الساعة العاشرة من مساء الجمعة، خرج فوزي مع صديقه محمد مخيمر لقضاء "مشوارٍ" بمركز البلدة، وخلال عودتهم، حضرت قوة جنود إسرائيلية من مستوطنة "شافي شمرون" القريبة من البلدة، وكمنت في منطقة معتمة على أطراف البلدة.
لدى وصول مركبة مخالفة من طريق منحدر، فاجأه الجنود بوابل من الرصاص، أحصى والده وأقرباؤه نحو 58 رصاصة ارتطمت بالسيارة، منها 16 رصاصة اخترقت جسده، منها ست رصاصات من النوع المتفجر، شوهت معالم يديه وأجزاء من رأسه وقدمه.
في المشفى، لم يستطع والده رؤية جسد نجله ممزقًا بالرصاص، فأراد أن تكون الصورة المطبوعة في ذاكرته صورته، وهو يبتسم قبل ساعتين، حينما اصطحبه لحفل زفافٍ لأقارب لهم في جنين.
لم يطبع على جبينه قبلة وداع، إلا عندما كُفّن بعلم فلسطين، وارتخى رأس ابنه على كوفية أخفت ما شوهته الرصاص، وقف أمام جسده الملائكي الساكن، مشهدٌ سقته دموعٌ جرت من حواف عينيه وهو يعانقه.
بكلمات صابرة وصوت متماسك يختبئ الحزن وراءه، استمعت صحيفة "فلسطين" لتلك التفاصيل من والد الشهيد، وفي بقية إفادته، منعت قوات الاحتلال إسعاف نجله وصديقه المصاب مدة ساعة، وأن فوزي لحظة إطلاق الرصاص عليه مال على صديقه.
يكمل: "ارتطمت كل الرصاصات في جسده، فنجى صديقه، حتى أن دماء فوزي كلها تصفت على الكرسي المجاور للسائق، وبعد ذلك سحب الجنود صديقه المصاب مسافة 2 كم متر، لداخل المستوطنة، واعتقلوه لتلفيق تهمة للشهيد وصديقه الذي لا زال معتقلاً".
يتدفق القهر من قلب الوالد، "كان يسير ابني بسرعة 20 كم عائدًا للبيت، وعندما أطلقوا عليه الرصاص ارتطمت السيارة بالجدار، ولم يحدث الصدام تشوهًا بهيكل السيارة، وهذا دليل على القيادة الهادئة، في المقابل كانت نية الجنود القتل من خلال نصب كمين بين الأشجار في منطقة لا يوجد بها أي موقع عسكري، وبعيدة عن مستوطنة شافي شمرون".
مشهد مرعب
تطل كلمات والده من رحم الألم موجوعة، ومن الخلف يصلك أصوات المعزين واصفًا المشهد بـ"المروع عاش في رعبٍ حقيقي"، تعامل جنود الاحتلال بوحشية مع شابين صغيرين عائدين لبلدتهم، بدليل أن الاحتلال لم يجد "أي قطعة سلاح أو شيء يمكن أن يوجه لهما اتهامًا".
تتحرك بقية التفاصيل أمامه "كنت أسمع صراخ الجنود على الشاب المصاب والجيران الذين حاولوا الاقتراب، وانتظروا ساعة حتى تأكدوا أن الدماء تصفت من جسد ابني، وقاموا بسحب الشاب، ورأيتُ ذلك أمام عيني، وبعد ذلك سمحت مخابرات الاحتلال للشاب مخيمر بالحديث مع والده دقيقة، وأفاد أنهم وجهوا إليه تهمة الشروع بالقتل، وأنه سيعرض على المحكمة الثلاثاء المقبل".
حتى الساعة العاشرة والنصف بقي فوزي مع والده، يعيش أجواء سعيدة بحفل زفاف أقرباء له في جنين، وشارك العريس باستقبال المهنئين، ودار بينه وبين والده حوار يطرق ذاكرة والده: "قلت له: بدي أجوزك وأفرح فيك، فابتسم وقال رافضًا الفكرة: مش حاطط في بالي الزواج الآن".
تدخل في الحوار ابن عمه معترضًا عليه، وقال له وهو ينظر لملابسه الجديدة معجبًا بوسامته: "هيك زي العريس وأكثر"، يردف "أثناء عودتنا أخذ السيارة ونزل مع صديقه على البلد، وبعدها بدقائق سمعت الحدث".
درس مخالفة تخصص المحاسبة في جامعة النجاح بالسنة الدراسية الأولى، يحب الرحلات والحياة، "إنسان محبوب بالبلد، حنون، علاقته جيدة مع الجميع" قالها برنة ألم.
"هو ذراعي الأيمن" بهذا وصف مخالفة ابنه البكر، وبعده رزق بست بنات، وآخر العنقود محمد (3 سنوات)، ساعد والده في إدارة مصنع "نايلون"، اعتمد عليه فهو "يستطيع تحمل مسؤولية أكبر من سنه".
"الله يرضى عليك يمّا.. نلت الشهادة وما لحقت أشبع منك" ببكاء مبحوح وعينين محمرتين ودعته أمه بتلك الكلمات، أما شقيقته غنى (12 عامًا) التي أهدته هاتفًا محمولاً قبل شهر في يوم ميلاده، أدخرت ثمنه من مصروفها وفاجأته به، انحبس الكلام في حنجرتها، وودعنه بدموع صامتة، في التشييع حمل شقيقه الطفل محمد ملصقًا مطبوعًا عليه صورة شقيقه الشهيد، ابتسم الطفل كما يبتسم شقيقه بالصورة، ولا يدري أنه لن يعود.