عندما تدخل مطعم الشيف سلام دقاق "بيت مريم"، ينتابك الشعور بالانتماء للمكان، وستندهش من تصميمه الذي يجعلك تعود إلى بيت العائلة القديم.
يعبق المكان برائحة التوابل الفلسطينية، وتتربع الأكلات الفلسطينية التقليدية على عرش قائمة الطعام المتنوعة.
تطبخ الشيف دقاق بإحساس عالٍ يجعلها تقدم نكهات غنية، فعينها هي ميزانها في رشّة الملح والفلفل والبهارات. ربما تكون طريقتها في الطهي موروثة عن والدتها، إضافة إلى الخبرة التي اكتسبتها على مدار سنوات عملها.
الطاهية دقاق أم لثلاثة أبناء، وقد عملت في الماضي مدرّسةً ومديرةَ مدرسة، وتنقلت بين عدة بلدان مثل عمان والسعودية ودبي وأمريكا. ومع ذلك، لم تنسَ أبدًا حلمها بامتلاك مطعم خاص بها.
ظل هذا الحلم يراودها مدة عشرين عامًا، حتى قررت تحقيقه، بعد أن قدّمت رسالتها تجاه أبنائها لتستقطع من الحياة وقتًا لنفسها، كما تخبر.
تقول دقاق لـ"فلسطين": "لطالما حلمتُ بأن أفعل شيئًا يرتبط بوالدتي، قررت افتتاح بيت يجمع كل المغتربين في هذه البلاد، حتى يشعروا وكأنهم في بيوتهم".
وتضيف الشيف المقيمة في مدينة دبي: "وأنا أطهو أشعر كأن يد أمي هي التي تحرك الطبخة، ولست أنا... هو ليس مطعمًا وإنما بيت يرتاده كل مغترب يحن إلى خبز أمه".
جمعت دقاق مقتنيات ووصفات والدتها، وحملتها معها في أثناء تنقلاتها بين البلدان التي أقامت بها. وفي عام 2017، بعد وفاة والدها بعشرين عامًا، افتتحت مطعمًا يحمل اسم والدتها "بيت مريم".
عند سؤالها عن الوقت الذي شعرت فيه بجاهزية لافتتاح مطعمها، أجابت: "عندما كنت في أمريكا حيث كان يعمل زوجي، كنت أتردد على مطعم عربي تديره سيدة تدعى أم فادي. كنت أراقبها وهي
تحضّر القهوة لنفسها بعد عناء يوم عمل طويل في المطعم. في تلك اللحظة، كنت أقف أمامها وأقول لزوجي: متى سأكون مثل أم فادي؟ وها أنا الآن".
تدير دقاق مطعمها ببراعة، فبالرغم من أنها كانت تملك معهدًا لتدريب الطبخ، إلا أنها لم تمتلك خبرة كافية في إدارة المطاعم. ولم تكن تدرك صعوبة إدارة مثل هذا المشروع حتى بدأت تتولى المسؤولية بنفسها لمراقبة الأوراق والملفات والحسابات.
تُذكر الشيف دقاق أنها حازت على جائزة أفضل طاهية في الشرق الأوسط في ديسمبر 2022، إضافة إلى جائزة "بيب غورمان" من دليل ميشلان العالمي.
"لاقيني ولا تغديني"
وتشتهر الشيف دقاق على منصات التواصل الاجتماعي بمقاطع فيديو عفوية وبسيطة تستعرض فيها فنون الطبخ واستقبالها لزبائنها بابتسامة عريضة.
وتعلق على ذلك بالقول: "أؤمن بأن أساس نجاح المطعم يبدأ من حسن استقبال الزبون عملًا بالمثل الشعبي القائل: لاقيني ولا تغديني".
وتعد دقاق إرضاء الزبون "أصعب عمل يقوم به صاحب المطعم، لذا أحاول أن أمر عليه بين الفينة، والأخرى لأطمئن على راحته، واستمرار الابتسامة مرسومة على وجهه منذ لحظة دخوله حتى خروجه من بيت مريم".
ولوالدة دقاق تأثير كبير في حياتها، فهي لم تكن علاقة أم بابنتها فقط. وتقول: إنها كانت دائمًا تحلم بأنه تخلد اسم والدتها، "عرضت عليها تسمية ابنتي الكبرى على اسمها فرفضت، فعرضت عليها مرة أخرى في ابنتي الثانية، ولكنها أصرت على الرفض. قلت لها: لو آخر يوم في عمري سأقوم بعمل ما وأضع اسمك فيه".
وتردف: "لم يغادر هذا الموقف ذاكرتي، وبعد وفاتها جمعت كل أغراضها ومقتنياتها التي كانت لها قيمة في حياتها من ماكينة الخياطة، وأواني، وجرن الكبة التي صنعت من حجارة بيتها في فلسطين، وحملتها معي في كل سفرياتي".
و"بيت مريم" مشروع عائلي بامتياز، فزوجها الداعم والممول الأساسي لها، وأبناؤها هم أصحاب الأفكار الإبداعية، مشيرة إلى أن ابنتها ندى استقالت من وظيفتها لتدير المطعم مع والدتها.
وتحرص دقاق على صنع الأكلات الفلسطينية التقليدية في مطعمها بأصولها القديمة، ولا تفضل التجديد فيها، بل تصر على أن تقديمها بنكهتها الأصلية التي تعلمتها من والدتها.
سر المطبخ الفلسطيني
ومن الأطباق التي لا تمل من تحضيرها هي المسخن الفلسطيني والسبب هو أنه يذكرها ببلدها فلسطين وأرضها.
وتبوح دقاق ببعض أسرار المطبخ الفلسطيني بالإشارة إلى زيت الزيتون الذي يمنح الطعام مذاقًا ونكهةً وقيمةً غذائية عالية، "فهو المكون الأساسي في كل أطباقي، إضافة إلى استخدام بهارات لا تستخدم المطابخ الأخرى مثل القرفة، والقرنفل، وجوزة الطيب، والمستكة في سلق اللحمة والدجاج، والزعتر البري، والسماق البلدي".
وتستغرب ابنتها ندى من سلاسة تعامل والدتها، وبوحها بأسرار أكلاتها لكل من سألها، فتسألها: "ماما كيف بتعطي أسرار الطبخ للناس؟"، لترد: "الكل ممكن يصنع نفس الطبخة ولكن النفس هو الفيصل، وأيضًا إذا لم أعطي أسراري لغيري، كيف سيتعلم الجيل من بعدنا".
بعض السيدات يأجلنَ أحلامهن لانشغالات الحياة، وضغوطاتها الكثيرة، والنصيحة التي تقدمها دقاق لهن: "اعملي على تحقيق حلمك من قلبك، ليس هناك وظيفة سهلة، ادرسي مشروعك واعملي عليه خطوة بخطوة لتصلي إلى نتيجة مرضية، ولا تستعجلي النجاح، الورقة والقلم لا تجعليهم يغادروا يدك، بل في نهاية يومك اكتبي الإخفاقات، والنجاحات، وما تريدين تحسينه".