من جديد برزت مرة أخرى في الشارع الفلسطيني أحاديث المصالحة وإنهاء الانقسام واستعادة الوحدة الوطنية الفلسطينية جغرافيًا بين الضفة وغزة، وسياسيًا بين حركتي حماس وفتح، لتعود معها التساؤلات الكبرى، بشأن سر التوقيت والأهداف الخفيّة والمعلنة من دعوة رئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس لقادة الفصائل الفلسطينية دون استثناء للاجتماع نهاية الشهر الحالي في القاهرة، وتبرز معها تساؤلات أكبر، حول الجدوى من تلبية دعوة عباس في ظل اقتناع الشارع الفلسطيني بأن استحضار الحوارات الفلسطينية وقضية المصالحة الفلسطينية باتت مجرد زوبعة إعلامية للتغطية على فشل السلطة الفلسطينية في حماية الشعب الفلسطيني من عدوان الاحتلال ومستوطنيه على أهالي الضفة المحتلة في الآونة الأخيرة.
جاءت دعوة عباس للحوار الفلسطيني في ظل تغيرات متسارعة في ساحة الضفة المحتلة، إذ تنامت قدرات المقاومة الفلسطينية في الضفة بشكل غير مسبوق، كما برز مخيم جنين كقلعة مقاومة محصنة شبيهة بغزة التي تحررت بعد اندحار الاحتلال عنها عام 2005م، كما تأتي هذه الدعوة في ظل تنامي الهواجس الإسرائيلية من قرب انهيار السلطة الفلسطينية، وفقدان أجهزتها السيطرة الأمنية على الشارع الفلسطيني ولا سيما في محافظات شمال الضفة المحتلة، علاوة على ضعف التأييد الشعبي للسلطة، وتصاعد الاتهامات لأجهزة أمن السلطة بأنها باتت ذراعًا للاحتلال، ولا سيما بعد اختباء عناصرها في المقرات الأمنية ونكوصها عن حماية الفلسطينيين في مخيم جنين إبان العدوان الأخير، وتجرؤ الشباب الفلسطيني على مهاجمة مقرات الأجهزة الأمنية الفلسطينية، مع تصاعد مخاوف الاحتلال من الفوضى في اليوم التالي لاختفاء عباس عن المشهد السياسي الفلسطيني، بموازاة مخاوف إقليمية عربية من سيطرة قوى المقاومة الفلسطينية على الضفة المحتلة.
تهدف قيادة السلطة الفلسطينية بدعوتها للحوار الفلسطيني في القاهرة إلى إعادة تأكيد دورها القيادي بوصفها الممثل الشرعي، ولا سيما بعد تدني تأييدها في الشارع الفلسطيني، والنظرة السلبية المتصاعدة تجاه دورها الأمني في ملاحقة المقاومة في الضفة المحتلة، ففي الوقت الذي يسعى فيه محمود عباس إلى تضليل الشارع الفلسطيني بإعادة الحديث عن دوامة المصالحة وإطلاق جولة جديدة من الحوار السفسطائي العقيم دون رغبة حقيقية في إنهاء الانقسام، فإن قادة السلطة الفلسطينية يأملون في امتصاص الغضب الشعبي المتصاعد ضد السلطة بعد معركة جنين، وإشغال الشارع الفلسطيني عن الحديث حول الواقع السياسي المتردي في الضفة، وحملات الاعتقال السياسي المتصاعدة التي تشنها أجهزة السلطة الأمنية ضد الناشطين والحقوقيين والمحررين وطلبة الجامعات، التي جاوز تعدادها ثلاثمائة حالة اعتقال سياسي منذ مطلع عام 2023م، لا يزال أربعون من المعتقلين رهن الاعتقال بحسب "مجموعة محامون من أجل العدالة"، إضافة إلى رفض أجهزة السلطة الإفراج عن معتقلين صدرت بحقهم أوامر إخلاء سبيل من المحاكم الفلسطينية.
من جهة أخرى فإن الدولة المصرية تحرص على استضافة هذا الاجتماع الفلسطيني بوصفها الراعي الحصري للقضية الفلسطينية، خاصة مع دخول عدد من الدول العربية وفي مقدمتها الجزائر الشقيقة على خط المصالحة الفلسطينية الداخلية، كما تهدف مصر بهذه الاستضافة إلى ضمان حفاظها على علاقة جيدة -بنسب متفاوتة- مع جميع المكونات السياسية الفلسطينية وضمان استمرارها كمرجعية عربية لجميع القوى في الساحة الفلسطينية.
من جهة أخرى فإن مصر تسعى من جديد لإبراز دورها السياسي في رعاية الملف الفلسطيني أمام الإقليم والإدارة الأمريكية وكيان الاحتلال على حد سواء، إضافة إلى سعيها للإسهام الفاعل في حماية السلطة من الانهيار، والعمل على ترتيب خلافة عباس ترتيبًا يضمن عدم انزلاق الواقع الميداني في الضفة نحو الفوضى أو سيطرة حركة حماس.
وبالرغم من قناعة الكثيرين، بأن مخرجات اللقاء المقبل للأمناء العامين للفصائل الفلسطينية في القاهرة لن يكون حالة شاذة عن دعوات ولقاءات مشابهة ثبت عدم جدواها سابقًا بسبب ارتهان السلطة الفلسطينية للقرار الخارجي، وعدم رغبة الإقليم في اندماج قوى المقاومة ضمن المنظومة السياسية الفلسطينية، فإنني أرجح مشاركة قوى المقاومة وفي مقدمتها حركة حماس في لقاء القاهرة، حيث تسعى حركة حماس إلى تأكيد تمسكها بالمصالحة الفلسطينية وإنهاء الانقسام الفلسطيني كخيار إستراتيجي ضروري لمواجهة الاحتلال، إضافة إلى دورها المهم كمُكوّن سياسي رئيسي وفاعل في الساحة الفلسطينية، فهي أيضًا تحرص على تعزيز علاقتها مع الدولة المصرية بإنجاح ودعم الدور السياسي المصري في القضية الفلسطينية.
واليوم وبعد فشل الاحتلال في إطفاء جذوة المقاومة في جنين، وصمود المقاومة فيها بطريقة أربكت الاحتلال، وتصاعد حملات الاعتقال السياسي ضد المقاومين في الضفة، ضمن مخطط إقليمي ليس بعيدًا عن مخرجات لقاءات العقبة وشرم الشيخ، وما نتج عنها من توافقات تهدف إلى استئصال المقاومة في الضفة، وتشديد الحصار عليها في غزة، فإننا نرى بأن نجاح لقاء الأمناء العامين في القاهرة مرهون بإنهاء التنسيق الأمني، ورفع اليد الأمنية الغليظة عن المقاومة في الضفة، والتوافق على إجراء انتخابات فلسطينية شاملة كمدخل وحيد لإنهاء الانقسام، سوى ذلك ستبقى لقاءات القاهرة وما يتبعها بعد أشهر وسنوات من دعوات ولقاءات هي مجرد زوبعة إعلامية لإلهاء الفلسطينيين عن مقاومة الاحتلال.