فردت يداها الصغيرتان لاحتضان والدها الأسير المقدسي رمزي العباسي، وهو مقيد اليدين ويحيط به سجانان قبل دخوله قاعة محكمة الاحتلال الإسرائيلي لحضور جلسة المحاكمة الثلاثاء الماضي.
رفرفت الطفلة كنز (عامان) بذراعيها لعناق والدها، لكن سجانَين غليظين يقبضان على السلاسل الحديدية التي تقيّد يديه حالًا بينهما، وهما يواصلان اقتياده لقاعة المحكمة، كاسرين قلب الطفلة التي ما فتئت تلوّح بيديها.
ما كان من الأسير "العباسي" إلا عناق طفلته بعينيه، مرسلًا نظرات شوقه إليها وهو يستدير برأسه نحوها، والسجانان يدفعانه لقاعة المحكمة، لتقف وعلامات الحزن ترتسم على وجهها.
مشهدٌ وثقه مقطع فيديو انتشر عبر مواقع التواصل الاجتماعي، وتفاعل معه الرأي العام الفلسطيني والعربي، وجسد مشهدًا جديدًا من مشاهد القهر والحرمان والمعاناة التي يعيشها أبناء الأسرى، وعرض كذلك جانبًا جديدًا من قسوة قلوب السجانين أمام حلم طفلة باحتضان والدها.
قبل المشهد، عاشت الطفلة ووالدتها لحظات أخرى ترويها زوجة الأسير شيماء العباسي لصحيفة "فلسطين": "منذ الصباح سألتها: وين بدنا نروح اليوم؟ فردت وهي تبتسم بصوت مرتفع تصرخ من الفرح: عند بابا، وعندما وصلنا قاعة المحكمة تأخر قدوم زوجي للجلسة بسبب المظاهرات الاحتجاجية التي تشهدها دولة الاحتلال".
يتجمع الأسى بين ثنايا كلماتها، تكمل: "طلبت من صديق الأسير أن ينزل طفلتي للأسفل، وعندما أراد النزول بها عبر المصعد، تفاجأت بوالدها أمامها يخرج من المصعد، ومن لحظة رؤيتها لها قفزت تريد احتضانه، وواضح عبر الفيديو أنهم تجاهلوها، وظلت حزينة لعدم قدرتها على معانقته".
ما حدث مع الطفلة، كان ضمن مشهد آخر في الجلسة ذاتها، عندما حاول والد زوجته التربيت على كتفه من الخلف، فضرب السجانان يده بشدة وجاء أثر الضربة على ظهر الأسير.
ومنذ شهر رمضان المبارك الأخير، يغيب الاحتلال الأسير العباسي (34 عامًا) ويحرم طفليه كنز وكنان (7 أعوام) منه، ويواصل اعتقاله بدون تهمة، لكن زوجته ترى أن اعتقاله جاء بسبب مبادرته "رحالة فلسطين" التي تهدف للتعريف بالقرى الفلسطينية المحتلة، عبر رحلات أسبوعية وتنظيم مسارات للمدن، حتى تبقى حاضرة في ذاكرة الفلسطيني.
"في 2 أبريل/ نيسان الماضي، نصبوا له كمينًا قبيل أذان المغرب واختطفوه وهو عائد من زيارة والدته بالمشفى، وحين تأخر في العودة للبيت، مع عدم رده على هاتفه، فهمتُ أنه اعتقل، لأنه في صباح اليوم ذاته حضرت قوة إسرائيلية وسألت عنه (...) وبعد نحو ثلاث ساعات أخبرني المحامي باعتقاله"، تستعيد زوجته لحظة الاعتقال.
وعقب اعتقاله، تجول جنود الاحتلال بـ"العباسي" حتى الساعة الحادية عشر مساء في مدينة القدس المحتلة، ولم يقدموا له سوى كأس ماء صغير بالرغم من أنه كان صائمًا، ثم أحضروا له وجبة إفطار قبيل أذان فجر اليوم التالي، وبعدها مكث في زنازين العزل الانفرادي 41 يومًا، منها 15 يومًا أمضاها صائمًا.
رحيل دون عناق
في 23 أبريل الماضي، بعد 21 يومًا من مكوثه في الزنازين، رحلت والدته المريضة دون عناق، في ثالث أيام عيد الفطر.
يداهم القهر قلب زوجته: "تعلق رمزي بأمه كثيرًا، كان يلازمها في آخر ثمانية أشهر قضتها بالمشفى، وقبلها بشهر رافقته معها بالسفر للعلاج، ويوم اعتقاله كان عائدًا من زيارتها، يومها سألها: هل أنت راضية عني؟ فأومأت رأسها بنعم".
معزولًا عن العالم في زنازين معتمة، لم يعلم بخبر وفاة والدته إلا بعدما أبلغه محامٍ ذهب إليه، ليجهش الأسير ببكاء مكتوم، خطه في رسالة قال فيها: "عيدٌ وعزاء، الشعور كان منقوصًا، فلا وجود للحزن في زنزانة قبيحة تتوشح باللون الرمادي، هل يوجد أصعب من فقد الأم ومن عدم ممارسة حقوقك بالشعور بالحزن وإلقاء نظرة الوداع على من ربتك؛ أمك، ثم أمك ثم أمك. هذا الحزن تأجل للوقت الذي سيحين حتى خروجي من الأسر".
والأسير العباسي اختصاصي علاج طبيعي، فصله الاحتلال من عمله قبل أربع سنوات بذريعة مقاومته للمحتل، واتهمه بالمشاركة في أحداث شهدها المسجد الأقصى حينها، تخللها تصدي المرابطين لاقتحامات المستوطنين، وقد كسرت قدمه في إثر اعتداء الجنود عليه، ومن وقتها ومحاكم الاحتلال تلاحقه بتهمة الاعتداء على جندي.
ولا يزال الاحتلال يتهم العباسي بـ"التحريض"، وقد جاء ضمن اللائحة أنه يعرّف نحو نصف مليون متابع على "انستغرام" بالقرى المحتلة المهجرة، ولم يستسلم لفصله من الوظيفة، بل أصبح مرآة لفلسطين على العالم.
وتشير زوجته إلى أنه قبل اعتقاله كان على وشك الانتهاء من تصوير حلقات برنامج "تاكسي القدس" الذي يستضيف فيه شخصيات مقدسية ومرابطين، وتدور المقابلة في أثناء التجوال بالسيارة، وبثت بعض حلقاته على موقع "البوصلة".
ومنذ طفولته، كان لدى العباسي شغف بالبحث عن الأشياء والترحال، حققه بتأسيس مجموعة "رحالة فلسطين" وهي مجموعة شبابية تضم 300 مشارك من القدس والضفة الغربية المحتلتين، وقد نظم الفريق 100 رحلة، ومن شروط الانضمام إليه "القدرة على تحمل السير"، وفي معظمها كان يوثق العباسي حيثياتها ويشاركها مع متابعيه ويجعلهم في قلب الحدث، ويغرس فيهم معلومات ثقافية.
مغامرات فلسطين
من ضمن جولاته التي لا تغيب عن ذاكرة زوجته، كانت لـ"وادي القرن" في الجليل الأعلى؛ أحد أكبر وأجمل الأودية في فلسطين، يبلغ طوله 43 كم، وقد استمرت الرحلة أربعة أيام برفقة ستة مشاركين، وأطلق عليها اسم "من نهرها إلى بحرها"، إذ انطلقت من قرية "الزيب" المهجرة قضاء عكا وصولًا إلى بحيرة طبريا، وبلغت مسافة المسير 82 كم، مروا في أثنائها بأودية ومناطق تشبه الغابات.
شغف الأسير العباسي بالمغامرة وحبه لفلسطين قاده للمشاركة في مسارات خارجية مع مجموعة "تسلق لأجل فلسطين" التي تأسست عام 2017، فتسلق قممًا عالمية في نيبال وكلمنجارو (أعلى قمة بأفريقيا) وقمة جبل أرارات (أعلى قمة بالشرق الأوسط) ورفع علم فلسطين على علو 5137 مترًا كما يفعل في كل مرة عندما يصعد قمم الجبال، كما وصل إلى قاعدة جبال إيفرست (أعلى جبل على وجه الأرض)، لكن لم يمتلك التقنيات اللازمة لصعود قمتها.
عايشت زوجة العباسي لحظات استعداداته قبل كل رحلة تسلق، بنبرة فخر تسترجع تلك اللحظات: "كان دائمًا يقول إن اسم فلسطين يجب أن يبقى عاليًا، واختار قمم الجبال لإظهار حبه لفلسطين، وقبل أي رحلة كان يستعد لمدة شهر بممارسة الركض، ويتحمل في الرحلة ظروف الجبال وانخفاض درجة حرارتها وهذا ما جعله يتحمل آلام الزنازين".
بتلك المسارات كان يحاول زرع بذور حب الوطن في قلوب المشاركين، وكان للأطفال نصيب من تلك الرحلات، لإنشاء جيل مرتبط بقضيته.