كانت السماء تكتسي لونًا أسودَ عندما توغلت قوات الاحتلال بعشرات المدرعات والآليات إلى مدينة جنين ومخيمها. في تلك اللحظة لم تكن تدرك والدة "إمام الكتائب" الشهيد يوسف شريم، ما الذي تخبئه ساعات الليل القادمة من مساء الأحد الماضي.
تفاجأت بصوت انفجار هز جدران منزلها، تبيّن لها أنه قادم من ناحية الباب، قبل أن تستوعب الأمر. اقتحم عشرات الجنود المنزل من النوافذ، وسبقتهم قنابل صوت وغاز مسيل للدموع ألقوها بالداخل. انتشر الدخان بين جدران المنزل، مخلّفًا مشهدًا من الفوضى والرعب.
احتضنت والدة الشهيد ابنتها الوحيدة سلسبيل وحاولت تجاوز المحنة بالصمت والصبر، رغم محاولات الجنود لاستفزازها، فقد ضربوا طفلها آدم، (16 عامًا)، واعتقلوه مع والده، وأطلقوا النار على صورة الشهيد "يوسف" وهم يرددون اسمه قبل كل عملية إطلاق النار، ثم ينظرون إليها بسخرية قائلين: "ابنك الشيخ يوسف".
لم يكتفِ الجنود بهذا، بل فتشوا المنزل بحثًا عن أغراض تعود لابنها يوسف، رغم أن والده أكد أنه لم يتبقَّ شيء له في المنزل، كما زادوا في استفزازها بدعس صورة ابنها الشهيد بأقدامهم.
"دقيقتان وبرجعلك إياه".. تحوّلت تلك المهلة الوجيزة التي حددها جنود الاحتلال إلى ثلاثة أيام غاب فيها زوجها ونجلها عن البيت، حتى أُطلق سراحهما مساء الخميس. كانت تعيش الوالدة خشية أن ينضم فلذة كبدها لشقيقيه الأسيرين، ما سيجعل البيت خاليًا من أبنائها.
اقرأ أيضًا: الأمم المتحدة: عدوان الاحتلال على جنين جريمة حرب
رسائل صمود
من قلب منزل تنبض جدرانه بتضحية الشهيد ودوره في تعزيز المقاومة في المخيم، تُوجه الوالدة رسالة مليئة بالتحدي للاحتلال: "جرائمهم تزيدنا تمسكًا بمخيمنا وأرضنا، وما حدث بالعدوان زادنا قوة وشجاعة".
وبنبرة فخورة، تردف أن ابنها يوسف قدم نفسه شهيدًا، وأنها مستعدة لتقديم "كل شيء فداءً لله ولمخيمنا الطاهر الشريف، الذي سيبقى شوكة في حلق المحتل".
كان واحدًا من أهداف الاحتلال ضرب الحاضنة الشعبية للمقاومة في المخيم، ولكن رد الأهالي على الاحتلال تجسد في رسالة مؤثرة تركها أحد المواطنين في داخل منزله بالمخيم للمقاومين.
في نص الرسالة يُذكر أن "الأكل والمونة والماء متوفرة في الدار وفي البراد، فداكم الدار طوبة طوبة، المهم تضلكم بخير". وقد حدد ذاك المواطن مسالك الخروج من المنزل وأماكن وجود النقود للمقاومين عند حاجتهم إليها.
تلاحم اجتماعي
تنوعت صور وأشكال دعم الأهالي للمقاومة في المخيم، على الرغم من المآسي والدمار الذي طال كل شيء. من بين تلك الصور توفير الطعام والإمدادات الضرورية للمساعدة على استمرار المقاتلين في مواجهة قوات الاحتلال، فالأهالي وفروا الطعام للمقاومين لتلبية احتياجاتهم الأساسية خلال فترات المواجهة.
وعلاوة على ذلك، كان هناك دور مهم للأهالي في إرشاد المقاومين بشأن تحركات جيش الاحتلال، حيث قدموا المعلومات الحيوية لهم لمساعدتهم على التصدي للاقتحامات المحتملة.
كما تجلى التضامن والإبداع في تغطية بعض أزقة المخيم بأقمشة طويلة، لحجب رؤية الطائرات، ومنعها من رصد المقاومين وتحركاتهم.
ياسمين حنتولي، الصحفية المقيمة في مخيم جنين، لم تكتفِ برصد الدمار والجرائم الإسرائيلية بكاميرتها، بل عاشت خلف تلك الصور تجارب مؤثرة لتضامن الأهالي مع المقاومة.
في حديثها لصحيفة "فلسطين"، أشارت إلى الدعم الكبير الذي قدمه الأهالي، سواء على المستوى المعنوي أو المادي.
اقرأ أيضًا: "حلايقة": جنين شكّلت نموذجًا فريدًا للمقاومة يجب أن ينتقل لباقي مناطق الضفة
وتقول: كان الدعم المعنوي والمادي واسعًا، حيث فتحت العديد من البيوت الأبواب أمام المقاومين. كان الأهالي يصدحون باسم المقاومة.
وتشير إلى الدعم الشعبي القوي الذي تلقاه المقاومون، وتؤكد حنتولي على ذلك من خلال الرسالة التي تركها أحد المواطنين للمقاومين.
من بين الصور اللافتة التي رصدتها الصحفية حنتولي تظهر دعم الأهالي للمقاومين إنشاؤهم صندوقًا لجمع التبرعات لمصلحة المخيم، وعلى الرغم من ذلك فإن الأهالي نجحوا في جمع مبالغ كبيرة خلال عدة ساعات فقط.
رغم أن المقاومة طلبت من الأهالي إغلاق الصندوق بعد تحقيق تلك المبالغ، إلا أن الأهالي أصروا على المضي قدمًا واستمروا في التبرع وتقديم الدعم المالي للمقاومة.
فداء للمقاومة
كفاح ضبايا، البالغ من العمر 33 عامًا، وجد نفسه مضطرًا للنزوح مع عائلته المكونة من 16 فردًا من المخيم إلى إحدى البلدات المجاورة. وفي تلك اللحظة، فتح الأهالي أبواب منازلهم لاستضافة عائلته، وهذا المشهد أكد تلاحم الأهالي وترابطهم، حيث حاولوا تقاسم اللقمة والمعاناة، بهدف تخفيف آلام العدوان.
يقول لصحيفة "فلسطين" بعد العودة إلى بيتهم: "انتصرنا على المحتل، وبيوتنا فداء للمقاومة، لأنها السد والسند لنا، وكما رأينا خلال العدوان كل الأهالي كانوا يدعمون المقاومين، بل يتسابقون في تقديم الدعم المعنوي أو مدهم بالطعام كذلك".
محمود عايش، شاب أبدى فخره بالمقاومة، قائلا: "الناس سعيدة بما حققته، كأنما لم يحدث شيء لبيوتها أو لشوارع المخيم، الجميع يهتف للمقاومة".
ويربط عايش بين الماضي والحاضر في مخيم جنين، حيث أصبح التمسك بالمقاومة جزءًا من الهوية الجماعية للأهالي في المخيم. عن ذلك قال لصحيفة "فلسطين": "نحن في المخيم تعودنا على المقاومة، فنحن منذ عام 2002 نقاوم المحتل. في كل بيت هناك شهيد أو أسير، لذلك اعتدنا على الصمود والتحدي".
وروى عايش لحظات صعبة تعرض لها خلال العدوان، حيث تضرر منزل عائلته بشكل كبير بسبب تكسير الزجاج وخلع البلاط وفتح فوهات للقناصة. وليس هذا فحسب، بل تعرض منزل جيرانهم أيضًا للقصف.
يتذكر عايش بداية العدوان، حيث بدأ بقصف منزل جيران عائلته الواقع على أطراف المخيم. وبعد ذلك بدأ حصار المخيم، وتعرضوا لظروف صعبة. اضطر مع أطفاله ووالدته المسنة إلى النزوح إلى المستشفى الحكومي لمدة يومين.
وعندما عادوا إلى منزلهم بعد انسحاب الاحتلال، وجدوا أضرارًا كبيرة في البيت. ومع ذلك، يعدون تلك الأضرار "جميعها فداءً للمقاومة"، كما يقول عايش.