شنّت (إسرائيل) عدوانا عسكريا واسع النطاق على مدينة جنين ومخيمها، في أقصى شمال الضفة الغربية، شارك فيه ألف جندي وضابط ينتمون إلى الوحدات الخاصة وألوية الصفوة في جيش الاحتلال وسلاح الجو، فضلا عن استفادة هذه القوات من التغطية الاستخبارية التي يوفرها جهازا المخابرات الداخلية "الشاباك" والاستخبارات العسكرية "أمان".
وحسب البيانات الصادرة عن القيادتين السياسية والعسكرية في (تل أبيب)، فإن العدوان الذي أطلق عليه "المنزل والحديقة" قد رمى بالأساس إلى جملة من الأهداف التكتيكية والإستراتيجية. فعلى الصعيد التكتيكي، هدف العدوان إلى تصفية مكانة منطقة جنين الحاضنة للمقاومة ومنطلق عملياتها ضد أهداف الاحتلال، سواء في الضفة الغربية أو في (إسرائيل)؛ فضلا عن محاولة القضاء على القوى البشرية التي تعتمد عليها قطاعات المقاومة المختلفة في المنطقة، سواء عبر عمليات التصفية أو الاعتقال.
إلى جانب ذلك، فقد هدف العدوان إلى تدمير البنى التحتية التي تضمن تعاظم القوة العسكرية للمقاومة، مثل معامل إنتاج العبوات الناسفة الجانبية، التي باتت كابوسا للعربات المدرعة التي تقتحم المدينة ومخيمها. في الوقت ذاته، فإن (إسرائيل) معنية بتوظيف العدوان في محاولة تفكيك البنى التنظيمية للمقاومة في المنطقة والمسّ بقدرة هذه البنى على التواصل مع قيادات المقاومة خارج حدود الضفة الغربية.
وعلى الصعيد الإستراتيجي، فإن العدوان يهدف إلى توفير بيئة أمنية تسمح بتعاظم واتساع المشروع الاستيطاني اليهودي في الضفة الغربية في أقل قدر من الممانعة الفلسطينية. فلأن الكنيست قد أقرّ أخيرا قانونا يسمح بإعادة بناء المستوطنات التي كانت قائمة في شمال الضفة الغربية والتي تم تفكيكها في 2005 في إطار خطة "فك الارتباط"، فإن حكومة بنيامين نتنياهو معنية بتقليص قدرة جنين على مواصلة تصدير الفعل المقاوم إلى المحيط، وضمن ذلك إلى المنطقة التي سيتم تدشين المستوطنات اليهودية عليها مجددا في المنطقة.
اقرأ أيضًا: الإسرائيليون "يستلّون" سكاكينهم على بعضهم عقب الفشل في جنين
اقرأ أيضًا: بين جنين والداخل المحتل.. مفاجآت يخشاها الاحتلال
وفضلا عن ذلك، فوفقا لتصريحات المستويات السياسية في (تل أبيب) فإن العدوان يهدف إلى تعزيز قوة الردع الإسرائيلية التي تآكلت بعد سلسلة عمليات المقاومة التي شهدتها الضفة الغربية أخيرا.
وفي الوقت ذاته، فإن هناك هدفا إستراتيجيا تتعمّد (إسرائيل) التغطية عليه ويتمثل في أن القضاء على جيوب المقاومة في جنين وفي شمال الضفة الغربية عموما يحسن من قدرة السلطة الفلسطينية على إعادة سيطرتها على المنطقة.
وقد أكد نتنياهو بشكل لا لبس فيه أثناء إفادة له قبل أسبوع أمام لجنة الخارجية والأمن التابعة للكنيست كشفت عن فحواها قنوات التلفزة الإسرائيلية بأن بقاء وتعزيز نفوذ السلطة الفلسطينية يعدّ مصلحة أمنية لإسرائيل. ويشار في هذا السياق إلى أن الهدف المعلن لاجتماعي "العقبة" و"شرم الشيخ" اللذين عقدا خلال الأشهر الخمسة الماضية، وشارك فيهما ممثلون عن (إسرائيل) والسلطة الفلسطينية ومصر والأردن والولايات المتحدة، بحثا سبل تعزيز وتقوية مكانة السلطة الفلسطينية، تحديدا في شمال الضفة الغربية.
ولا يمكن تجاهل دور الاعتبارات الداخلية كمحفز لتنفيذ هذه العملية، حيث إنها جاءت في أعقاب ضغوط مارسها ممثلو اليمين الديني في حكومة نتنياهو، لا سيما وزير المالية بتسليل سموتريتش ووزير الأمن القومي إيتمار بن غفير وقادة المستوطنين في الضفة والمرجعيات الدينية اليهودية.
كذلك لعبت حسابات نتنياهو الشخصية دورا في زيادة حماسته لشن العملية، حيث إن شن العملية العسكرية في جنين يسمح بتغليب الأجندة الأمنية على الجدل الداخلي، خاصة في ظل تعاظم الاحتجاجات على حكومته في أعقاب إصرارها على تمرير خطة "التعديلات القضائية"، مع العلم أن هذه الاحتجاجات أفضت إلى تهاوي مكانة نتنياهو وشعبية حزب الليكود الذي يقوده، كما عكست ذلك نتائج استطلاعات الرأي العام.
لكن على الرغم من الصخب الإعلامي الإسرائيلي حول العدوان العسكري وأهدافه، فإن كل المؤشرات تدل على أنه سيفشل في تغيير الواقع في الضفة الغربية.
فقد شنت (إسرائيل) عدوان "المنزل والحديقة" في الوقت الذي كانت لا تزال فيه تواصل شن حملة "كاسر الأمواج" الواسعة التي أمرت بتنفيذها حكومة بينت لبيد السابقة قبل عامين، والتي ركزت بشكل خاص على شمال الضفة الغربية وتحديدا على جنين ومخيمها ومدينة نابلس ومحيطها. ففي إطار حملة "كاسر الأمواج" دهم جيش الاحتلال جنين ومخيمها عشرات المرات واغتال عشرات من قادة وعناصر حركات المقاومة فيها واعتقل مئات منهم، فلو كان الرهان على استخدام القوة العسكرية في مواجهة المقاومة في جنين في محله لما اضطرت (إسرائيل) إلى شن عدوان "المنزل والحديقة" وهي لا تزال تواصل حملة "كاسر الأمواج".
لا يوجد أكثر سخفا من ادعاء قادة (إسرائيل) بأن هدف العدوان هو منع جنين من التحول إلى "مأوى وعاصمة" للمقاومة، ويكفي أن نستحضر تعليق رئيس شعبة الاستخبارات العسكرية الإسرائيلي السابق تامير هايمان الذي علق على هذا الادعاء قائلا في سلسلة تغريدات على حسابه بتويتر أن المقاومة ضد الاحتلال "تحتل قلوب الفلسطينيين"، بمعزل عن البقعة الجغرافية التي يوجدون فيها، أي إن تواصل احتلال (إسرائيل) للأراضي الفلسطينية سيضمن تواصل المقاومة بمعزل عن طابع وحجم الفعل العسكري المضاد الذي ينفذه جيش الاحتلال.
أما مزاعم قيادة (تل أبيب) بأن العدوان سيسهم في تعزيز قوة الردع الإسرائيلية فتبدو متهافتة تماما، فإن كانت عمليات الاغتيال وحملات الاعتقال الواسعة وتدمير منازل منفذي عمليات المقاومة لم تسهم في المس بدافعية الشباب الفلسطيني لتنفيذ العمليات فإن العدوان الأخير في جنين لن يسهم أيضا في تغيير هذا الواقع.
لذا، فإن هايمان وسلفه في قيادة شعبة "أمان" عاموس يدلين والصحافيين الإسرائيليين عاموس هارئيل وآفي سيخاروف توقعوا ألا ينجح العدوان في تغيير الواقع الأمني في الضفة الغربية مطلقا وأنها قد تفضي تحديدا إلى زيادة عمليات المقاومة.
ويكفي أن ينفذ مقاوم فلسطيني عملية واحدة بعيد انتهاء العدوان على جنين ليدلل على أن هذا العدوان لم يسهم في تغيير الواقع الأمني في الضفة، مع العلم بأن كثيرا من عمليات المقاومة المؤثرة التي نفذت في العامين الأخيرين لم تنطلق من منطقة جنين بل من مناطق أخرى في الضفة الغربية.
يأبى قادة (إسرائيل) استخلاص العبر من تجاربهم مع الشعب الفلسطيني ونضاله، فقبل 21 عاما شن جيش الاحتلال حملة "السور الواقي" التي تعد أكبر حملة عسكرية شنتها (إسرائيل) في الضفة الغربية منذ عام 1967، حيث دُمّر خلال هذه الحملة مخيم جنين بالكامل، وها هي (إسرائيل) بعد أكثر من عقدين من الزمان على "السور الواقي" تواجه الجيل الذي ولد في المخيم بعد تدميره، لتفاجأ بأنه أكثر قوة وأشد بأسا من الأجيال السابقة. وهذا يمثل دليلا آخر على بؤس الرهان على خيار القوة في مواجهة شعب مصر على التخلص من محتليه، لكن ذاكرة الغزاة القصيرة تحول دون ولوجهم إلى الاستنتاج المنطقي والموضوعي، فلا يمكن لشعب حي التطبع والتعايش مع الاحتلال.