يجول في مهرجانات السينما الوثائقية المرموقة هذا العام، الفيلم السياسي الطويل (Praying for Armageddon)، وترجمته العربية "الصلاة لأجل جبل مجدو"، من إنتاج عام 2023، وإخراج صانعة الأفلام النرويجية تونية شاي.
يحاول الوثائقي فهم تأثير التيارات "المسيحية الإنجيلية الأصولية" في الولايات المتحدة البليغ على السياسة الأمريكية داخليًّا وخارجيًّا، وعلاقة ذلك بإيمان تلك التيارات بنهاية العالم الوشيكة.
ولمعاينة أثر تلك التيارات على صناعة القرار السياسي الأمريكي، تحلل المخرجة حالتين: الأولى- داخلية متعلّقة بأحداث اقتحام الكونغرس في السادس من كانون الثاني/ يناير 2021، وهوس تلك التيارات بالحفاظ على دونالد ترامب في السلطة، والثانية- خارجية تتمثّل أساسًا بدعم تلك التيارات غير المحدود لـ (إسرائيل)، دون اكتراثها لمصير الفلسطينيين.
المعادلة الأساسية للفيلم
يبدأ الفيلم بمشاهد للقس يقود دراجاته النارية، متجهًا إلى جلسة كنسية سيديرها، حيث يذكِّر القس الحضور بحتميّة عودة المسيح يومًا ما، وضرورة الانخراط في المعركة القادمة، مستدلًا بنصوص إنجيلية.
لكن ما علاقة تلك النبوءات الدينية بعالم السياسة؟ يجيب على التساؤل هذا فرانك شافر، وهو واعظ إنجليلي سابق: "بالنسبة لهم، لا يمكن حدوث ذلك كله بدون وجود دولة (إسرائيل)"، مبرزًا ضرورة تواجد اليهود على أرض فلسطين كشرط لعودة المسيح، بحسب إيمان الإنجيليين الأصوليين.
وينبه شافر على أن ذلك الإيمان الراسخ هو سبب أساسي وراء "الإعاقة الأمريكية لعملية السلام، وعدم دعم الفلسطينيين باسترجاع أراضيهم".
بعد تفكيك المعادلة الأساسية للفيلم، وعلاقة الدين بالسياسة في السياق المذكور، تتبع مخرجة الفيلم الصحافي في موقع الإنترسبت، لي فانغ، والذي يحقق في أثر الإنجيليين الأصوليين على السياسة الخارجية الأمريكية تجاه (إسرائيل).
أثر السياسات الإسرائيلية
وبعد جرعة ثقيلة من المعتقدات الدينية، تبتعد المخرجة عن الولايات المتحدة، وتأخذ المشاهدين إلى جزء مصور في فلسطين المحتلة، لمعاينة أثر السياسات الإسرائيلية، المدعومة أمريكيًّا، على الفلسطينيين.
تتجوّل المخرجة مع الناشط المقدسي محمد الكرد، والذي يسكن حي الشيخ جراح بالقدس المحتلة، المهدد بترحيل سكانه الفلسطينيين من سلطات الاحتلال، والذي يربط في حديثه تنامي المشاريع الاستيطانية بالقدس بتمويل الإنجيلين الأصوليين.
كما تصوِّر المخرجة جولة سياحية سياسية تقودها المرشدة فيروز شرقاوي في القدس، تستعرض فيها سياسات الاحتلال المتعلقة بترحيل المواطنين الفلسطينيين وعمليات الهدم، وواقع الحياة قرب جدار الفصل الإسرائيلي.
وتمر المخرجة سريعًا بمناطق جنوب شرق الخليل، المعروفة بـ"مسافر يطا"، مستعرضة مساعي الاحتلال لترحيل السكان الفلسطينيين، والتوسّع الاستيطاني في المنطقة.
"جيش صليبي"
وتربط المخرجة النرويجية بين مشروع "مدينة داود" التي شُيِّدت في حي سلوان بالقدس، والتي تهدد بترحيل الفلسطينيين في المنطقة، وبين دعم الإنجيليين الأصوليين في الولايات المتحدة لذلك المشروع، إذا جرى استضافة ممثلين عن حركة "إلعاد" الاستيطانية، و"مؤسسة مدينة داود" في إحدى نسخ مؤتمر "مسيحون متحدون لأجل (إسرائيل)".
كما تبرز أصواتًا نقدية لمسألة "تكريس الجيش الأمريكي لخدمة الإنجيلية الأصولية"، والتي تعاينها بالتطرق إلى ورش العمل الدينية التي يتلقاها المجندون والمجندات، بل وبإظهار معدات عسكرية أمريكية الصنع، تحمل رموزًا إنجيلية.
هذه الممارسات، بحسب أصوات ناقدة في الفيلم، تسبب ضررًا داخليًّا لمنظومة الجيش، وتعزز الفكرة السائدة في العالم الجنوبي أن الجيش الأمريكي هو "جيش صليبي".
ويتفحّص الفيلم أيضًا فرضية مصلحة الإنجيليين الأصوليين بأن تتعرض (إسرائيل) لهجوم نووي من قوى معادية في المنطقة، ما سيسرع اندلاع "المعركة الأخيرة"، وعودة المسيح، "نؤمن أننا على وشك النهاية، وعالمنا الذي نعرفه سيتغير، وكل من رفض دعوة المسيح هو عدو وجب قتاله"، يقول المؤمنون في الفيلم.
مع نهاية الفيلم، يحاول الصحفي لي فانغ الدخول إلى إحدى اجتماعات الإنجيليين الأصوليين في تكساس، أحد أبرز معاقلهم الرئيسة، إلا أنه يُطرد من القاعة تحت تهديد استدعاء مكتب التحقيقات الفيدرالي.
ظاهرة "خطيرة ومروعة"
خلال إحدى العروض الأولى للفيلم الوثائقي حديث الإصدار، وذلك في مهرجان شيفيلد للأفلام الوثائقية بإنجلترا (حزيران/ يونيو 2023)، عبّر بعض المشاهدين عن استيائهم لعدم إبراز القيم الإيجابية للإنجيلية الأصولية، والتركيز على شيطنة ذلك التيار، في حين أكد آخرون على ضرورة عدم إهمال الأبعاد الإمبريالية الاستعمارية لقضايا العالم، عبر التركيز المطلق على المنظور الديني، وهي ملاحظات تقبلتها المخرجة النرويجية تونية شاي بصدر رحب، مؤكدة صعوبة معالجة محاور فرعية لموضوع أساسي معقد في فيلم وثائقي واحد.
كما تلقّت المخرجة نقدًا متعلقًا باقتصار إبراز أثر المسيحية الصهيونية على الملف الفلسطيني- الإسرائيلي في الأراضي المحتلة عام 1967 فقط، دون التطرق لأحداث 1948، والجذور التأسيسيّة لدولة الاحتلال، وبالتالي، إظهار الملف الفلسطيني-الإسرائيلي كحالة "احتلال عسكري" في قطعة من الأرض، بدلًا من حركة استعمار كلاسيكية ضربت كامل البلاد.
بالنسبة للمخرجة، لا يتمحور الفيلم حول السؤال الفلسطيني-الإسرائيلي بشكل أساسي، بل كانت محاولة لتناول ظاهرة "خطيرة ومروعة" تجري في الولايات المتحدة الأمريكية، لها انعكاساتها في الشرق الأوسط، بحسب كلماتها، وذلك بأسلوب صحافي سينمائي مشوق.
على الرغم من اهتمام مهرجانات سينمائية وثائقية عدة حول العالم بالفيلم الجديد، تواجه المخرجة صعوبة بالتعاقد مع جهات لبَثِّ الفيلم داخل الولايات المتحدة الأمريكية، بحسبها، ما يشكّل خيبة أمل كونها أرادت استهداف الجمهور الأمريكي بشكل أساسي.