حينما رفع الجنرال الأمريكي المتقاعد دايتون تقريره بأنه أغلق ملف الضفة الغربية وللأبد ووضع قفله الأمني عليه وأعطى المفتاح لأجهزة الأمن الإسرائيلية ونظيرتها التابعة للسلطة بالإشراف الأمريكي، لم يكن يعلم أن عقد الهدوء الذي أنجزه في محافظات الضفة الغربية تحت قبضة الأمن سينتهي بل وتعود الأمور أكثر تعقيدًا.
دايتون تعامل مع القضية الفلسطينية بالعقلية الأمنية، تلك العقلية التي أصلًا بنيت عليها اتفاقية أوسلو التي همشت كثيرًا النظرة السياسية أو تحقيق أقل القليل من الحقوق الفلسطينية، ليكن اليوم هذا القفل مكسورًا بإرادة شعبية تخطت حواجز الخوف والترهيب والترغيب والإعمار والتحسينات الاقتصادية والعقوبات الجماعية، هذا القفل اليوم كسرته مجموعات الشباب التي حملت السلاح ورفضت نظرية الردع التي مارستها (إسرائيل).
القفل الذي أحكم إغلاقه الأمريكان بعدة حلقات بدأت في تجاهل صوت الشعب والانتخابات عام ٢٠٠٦ وما سبقه من دعم عسكري ومالي للاحتلال في انتفاضة الأقصى وغطاء سياسي وأمني تمكنوا من خلاله من ارتكاب مجازر بشعة بحق الفلسطينيين، وبعد تجاهل الانتخابات وإجبار العالم على مقاطعتها بات الأفق السياسي معدومًا جدًا حتى وصل الحال بحصار غزة والضغط على الضفة الغربية.
صفحات دامية خلفتها (إسرائيل) في كتاب القضية وفتحت ملحقًا لإسدال الستار عليها، وكان هذا الملحق هو اتفاقية أوسلو وتبعاتها من التفاهمات الأمنية وصولًا إلى قفل الضفة الغربية.
بعد عام ٢٠١٥ تحركت الضفة فرديًا وعادت من جديد إلى شوارعها جنازات الشهداء اليومية والعمليات، ثم امتدت الحالة لمعركة سيف القدس ٢٠٢١ التي تعد محطة مهمة في كسر القفل المحكم على الفلسطينيين في الضفة الغربية.
اقرأ أيضًا: العدوان على جنين.. عن مشكلة "البيت والحديقة"
اقرأ أيضًا: جنين في مواجهة إرهاب الدولة
ظهرت عرين الأسود وكتيبة جنين، وكانت في كل لحظة تدرك منظومة الأمن الإسرائيلي بأن المشهد ينقلب وتتغير المعطيات، وتتوسع المخاوف، فمن كان يحمل سكينًا بات بيده سلاح ناري وعبوة وحزام.
هنا تعتبر أخطر نظريات الأمن التي حاول دايتون وكل برامجه أن يلغي من الضفة العبوات الناسفة والمتفجرات والأسلحة وغيرها إلا أنهم الآن يشاهدونها واقعًا ويعرفونها ميدانًا تصل أخباره العاجلة إلى أذن كل ذوي الشأن .
كسر القفل الذي تبجح الاحتلال كثيرًا بأنه مفتاح خطة الضم وثمرة أوسلو والتنسيق الأمني وإقصاء وملاحقة المقاومة.
كسر القفل الذي كان نقلة أمنية مهمة لدى الاحتلال تزامنًا مع جدار الفصل العنصري.
إجراءات أمنية واسعة لم تبدأ من دايتون ولم تنته بقِمم شرم الشيخ والعقبة وما بينهما وقبلهما، إنها حلم المستوطن بالأمن والقفل الذي كان مفتاحه لحرق عائلة دوابشة في قرية دوما والمحاصيل في كل أنحاء الضفة الغربية والمساجد والاستيلاء على المنازل في القدس والأراضي فيما يعرف بمناطق "ج" المصنفة بحسب أوسلو.
باتت (تل أبيب) تحت النار من جديد، والردع تهشم أكثر والمراهنة على تحييد الجبهات فشل، وتمزيق الحاضنة الشعبية لم ينجح، كل ذلك فقط لأن قفلهم انكسر ومفتاح الإرادة في يد المقاومة والشعب.
وآخر حلقات ونتائج كسر القفل ما حدث في (تل أبيب) دلالة ومضمونا.
فالضفة من جديد بعد ٢٠ عامًا من تحكّمها سابقًا في أمن الكيان بالأحزمة والعبوات انتقل التحكم بأمنه مباشرة إلى يد غزة بصواريخها وأسر الجنود.
ليكون ٢٠٢٣ العام الذي بات التحكم بأمن (تل أبيب) من الضفة وغزة وجبهات أخرى وهذا محبط لمنظومة الأمن الإسرائيلي.
فشل الاحتلال في عزل الساحات بل هشّم الردع أكثر ولا يزال الميدان يرسم معالم الأيام القادمة.
فالاستنزاف والمفاجأة والتوقيت.. تكتيكات المقاومة وحسابات شلومو ودايتون وغلمانهم أخطأت.
بأس جنين صداه في (تل أبيب) وقفل الضفة انكسر وهيبة الثبات تفتح باب التوسع الجغرافي والمعنوي في جبهة الضفة الغربية التي بذلت جهودًا وأموالًا وأوقاتًا لإحكام قفلها وصمتها.