في المهن المهمة الحامية للنسيج الاجتماعي والأخلاقي والإنساني كالطب والمحاماة يقسمون اليمين فيما يعرف بيمين المزاولة للمهنة، وقد أحنى رأسه هيبة وإجلالاً كضامن حيوي ورئيس في الاستمرار وتحمل المسؤولية، بينما يولد الصحفي الفلسطيني مقسماً اليمين على الوفاء في بلاط صاحبة الجلالة رافعاً رأسه إيماناً بالرسالة الحرة والكلمة الجريئة تمثل قذائف الحق والصورة الواضحة العابرة للقارات .
مع الذكرى السنوية الأممية للتضامن مع الصحفي الفلسطيني أعلن 29 صحفيا فلسطينيا عقد قرانهم على الكلمة الحرة في سجون الاحتلال بحضور جمع غفير من الأسرى في الغرف والأقسام الاعتقالية الذين كانوا شهود الحال، العرسان اليوم هم فرسان الكلمة الذين يربضون في سجون الاحتلال يدفعون ثمن إيمانهم بالحق في التحرر من ربقة الاحتلال وفضح سياساته العنصرية والتمييزية، يدفعون ويدافعون بجرأة منقطعة النظير يمثلون النظرية ذات الحيوية يظهر فيها كف الحق في مواجهة مخرز الباطل وأوهامه .
في عام 2011 وفي موعد الاحتفال بالذكرى التضامنية مع الصحفي الفلسطيني طلعت شمس ذلك اليوم وكنت أودعت معسكر حوارة جنوبي نابلس في لحظة اعتقال واختطاف سريعة من منزلي لأقضي خلف القضبان 14 شهراً من الظلم وتغييب الحقيقة تحت مسمى الاعتقال الإداري وكانت تهمتي التي تتكرر ان عملي الإعلامي غير بريء ، والبراءة الإعلامية في نظر الاحتلال وقوع الطلاق بين الصحفي وقضيته العادلة ، والاكتفاء بصحافة الموتى والعلاقات العامة ، صحافة ( إمشي الحيط الحيط ) ، صحافة (حُط راسك بين الروس ) ، صحافة (وأنا مالي) ، صحافة ( مرج عيون تبكي ولا عين أمي ) ، وهي محاور يسعى الاحتلال لزرعها في عقلية الفلسطيني عبر كي الوعي وترك الصحفي لقمة سائغة للمال وأنماط الحياة التي يمثل عمودها الفقري ( اللامبالاة).
أربعة عشر شهراً لم تثنِ العزيمة التي لبت النداء بزراعة البذار في طينة المحنة وتراب المعاناة، فكانت الغراس كلمات تستمد حيوتها وقوتها من معايشة الواقع ضاربة جذورها في أبجديات الدقيقة والساعة على مدار الحالة الاعتقالية، فكانت أولى الثمار كتاب أيام الرمادة . حكايات خلف القضبان، تلاها رموش من فولاذ . واقع الصحافة الاعتقالية في سجون الاحتلال، وهو كتاب دراسة يومية ينتظر الطباعة والنشر ، وغيره من الكتب الحية المستندة لفعاليات عقد القران في السجن وعلامة من علامات الفرحة.
عشرات الصحفيين والإعلاميين الفلسطينيين دفعوا من زهرة شبابهم سنين طويلة خلف الشمس، هي أطول من عمر الاحتلال وأشدُ عوداً من قوة باطله ، عايشت معظمهم في سنوات الحرية والأسر فكانوا قمماً في الوعي والتوجيه وكان منهم الراحل ماهر الدسوقي الذي كان همه تعليم محو الأمية للأسرى في الغياب في باحات سجن عوفر ، ومنهم الدكتور أمين أبو وردة الذي لم تمنعه البوسطات والمحاكم من رصد كل التفاصيل وتقديم الدورات الإعلامية والمساقات السياسية والفكرية وصناعة الناطق الإعلامي والتعامل مع وسائل الإعلام ، ومنهم عمر نزال الذي همه الحريات العامة في السجن والحرية ، ومنهم الدكتور نزار رمضان الذي نال الشهادة العليا أثناء اعتقالاته الطويلة ، والقائمة تطول في أرجاء الوطن الذي زرعت السجون والمعتقلات في خاصرته النازفة بالقهر وتكبيل الحريات.
الاحتلال لا يحتاج للتبريرات لتغييب الكوادر الإعلامية والثقافية والسياسية والرموز الاجتماعية والنخب في سجونه لقتل الرغبة في الحرية التي لا تزول حتى يزول الاحتلال ويختفي عن ثرى الوطن وعن نفوسنا وإلى غير رجعة.
وفي المقابل ولا مجال للمقارنة مطلقاً شهدت الساحة الفلسطينية المحلية حالة مفتوحة ومفضوحة في سياق الخلاف السياسي المحتدم جراء الانقسام المقيت بسنواته العشر ، تركت بصماتها المؤلمة والمؤسفة في ذات الوقت في نفوس زملاء عاشوا الأذى في زنازين الوطن ، وتحركت معاني القهر في بيوتهم التي ظلمت بغيابهم ، وهم الذين اكتووا بنار الاعتقال في سجون الاحتلال ، وهم الذين يقاتلون بأقلامهم وصوتهم وصورهم لحرية الوطن ومشروع تحرره ، في أسوأ حالة شهدتها الشعوب المقهورة الرازحة تحت نير الاحتلال .
لستُ أدري كيف يبحث المنتهِك عن تبرير انتهاكه وقضم حرية الصحفي ابن وطنه ؟ ولست أفهم الإيمان النفسي لشخصية من يعطي الأوامر بالاعتقال والاستهداف للفئة الإعلامية المقاتلة على بوابات الحرية ؟ ولست أعطي العذر لمن يبغي على ابن وطنه بالاعتقال والملاحقة والمصادرة ومنع التوظيف وحرمان الوصول للمعلومة بحرية ؟ ولست بمسامِحِ للزميل الذي يرضى لنفسه أن يكون من كُتاب التقارير بحق زملاء المهنة ورفاق الرسالة وإخوة الهدف ، وليعلم هؤلاء أن الانتهاك لا دين له ، مهما كانت هوية من يمارسه ويدعو له ويدعمه ، هؤلاء يجب أن يدركوا أنهم يقدمون خدمات جليلة لشيطنة الآخر والتفريط بحقوقه ، فالدنيا تعيش المتغيرات ومنها تغيير الإيمان وتبديل الولاءات الكفيلة بإعادة المرء للمربع الأول مربع اللقاء المشترك والفهم الواحد والغيرة الحريصة لا سواها.
ومع حلول الذكرى الأممية لا زال 29 صحفيا فلسطينيا ينتظرون موعد زفافهم في فضاء الحرية ، يحملون تاج صاحبة الجلالة المرصع بحرية التعبير والرأي دون قوانين تعود للعصور المظلمة ، وتعود مع حريتهم الهيبة لسلطتهم الرابعة فليست سلطة تابعة لكل سلطة ، وقواعدها صورة بلا ظل وكلمة بلا خوف وأثير دون تردد سوى الوطن ، والكل مدعو للمشاركة في زفاف تُطلقُ في الرصاصات على الكبت والحرمان والظلم ليكون الخبر عاجلاً على الشاشات والصفحات الرقمية وأثير الفضاء الوطني الواسع.